ميراي ماتيو... من فقر الطّفولة إلى مجد الأغنية

ثقافة 23-10-2025 | 17:29

ميراي ماتيو... من فقر الطّفولة إلى مجد الأغنية

تبدو ميراي ماتيو في الـ79 من عمرها مقبلةً على الحياة، تستعدّ للاحتفال بـ60 عاماً من المجد.
ميراي ماتيو... من فقر الطّفولة إلى مجد الأغنية
المغنية الفرنسية ميراي ماتيو. (أرشيفية)
Smaller Bigger

ثمة أصوات لا تُفهم، نتمنّى لمسها، تبقى معلّقة في مكانٍ ما بين الصلاة والأغنية. صوت ميراي ماتيو ينتمي إلى تلك الفئة النادرة من الأصوات التي تُحرّكنا، وتعبر الزمن بالشغف الذي كانت عليه منذ اليوم الأول. حين تُغنّي، تنهض معها فرنسا بأكملها؛ فرنسا الإيمان، والبساطة، والإخلاص لجمال الكلمات.

كثيراً ما اختُزلت في صورةٍ واحدة: الغرّة المستقيمة والتسريحة الثابتة، الفستان المحتشم، والابتسامة المنضبطة. لكنّ خلف الهيئة الهادئة الصارمة، عناداً بلا ضجيج وإيماناً شبه صوفي بالغناء بوصفه رسالة مقدّسة. في قاموس ميراي ماتيو، الغناء دعوة وفعل روحي. تغنّي كما يُصلّي الآخرون، بالانضباط ذاته، وبالتواضع ذاته.

الموسيقى كخلاص
قبل أن بلغ المسرح، كان الصمت. صمتُ بيتٍ متواضع، وصمتُ طفولةٍ مغمّسة بالمشقّة، بين يدي أبٍ قصّاب حجر وصانع شواهد القبور الرخامية، وحنوّ أمٍّ محور حياتها أولادها. اكتشفت الصغيرة ميراي باكراً أنّها لا تملك الكلمات لتقول، لكنها تملك صوتاً لتعبّر. في كنائس بروفانس، تعلّمت كيف تضع هذا العطاء في مكانه، كيف تُصغي للصدى، وأدركت أبعاد الصوت وأهمّيته. تحوّلت الأغنية عندها إلى لغةٍ وخلاصٍ حقيقي.

 

المغنية الفرنسية ميراي ماتيو. (أرشيفية)
المغنية الفرنسية ميراي ماتيو. (أرشيفية)

 

في إحدى أمسيات التلفزيون، اكتشفت فرنسا فتاةً شابة ترتجف قليلاً وتشعّ نوراً. صوتٌ يصعد من الجنوب كمدٍّ من الإيمان والشغف. مترٌ ونصف مترٍ، فستان أسود، وصوت معدني يذكّر بصوت إديت بياف التي لم تكن قد مضت بضعة أشهر على وفاتها. والذين أقسموا باسم بياف نبذوا المبتدئة التي عانت طويلاً من لعنتها، ومنهم من جزم بأنّها لن تتأخر لتعود إلى حياتها الريفيّة البائسة في أفينيون، حيث كانت تعلّق ملصقاتٍ على الجدران لتساعد والدها.

كان على الموهبة الخام أن تشقّ طريقها بصعوبة وبإيمان عنيد. لم تتلقَّ تعليماً في المعاهد الموسيقية، ولا تعلّمت رموز الصالونات الباريسية؛ كان لديها شيء آخر: الغريزة، صدق القلب، والعمل الدؤوب. وفي الأسبوع التالي أطلّت ثانيةً، وثالثةً ورابعةً. سمعها جوني ستارك، المنتج الذي أطلق جوني هاليداي وسيلفي فارتان، وأقنع إدي باركلي بتسجيل أولى أسطواناتها. وبيعت أربعمئة ألف نسخة من "إيماني" (Mon Credo) في شهر، وراح اسمها يكبر ويكبر.

"آنسة أفينيون"
كانت فرنسا الستينيات عطشى إلى الصدق. بين صخب موسيقى الـ"يي يي" والتيّارات المتمرّدة، ظهر صوت ميراي ماتيو، مرساة تعيد تثبيت المعنى بالأغنية. حملت في نطقها مدرسة بياف - حاولت مراراً الاستقلال عنها - وفي وجهها شيئاً من براءة الأطفال ووقار السيدات.

سارع المنتجون إلى تسميتها "آنسة أفينيون"، لكن وراء اللقب تختبئ حكاية أوسع: حكاية فرنسا الشعبية التي وجدت فيها انعكاسها. الفتاة ذات اليدين المضمومتين والنظرة المستقيمة أصبحت رمزاً لأناقةٍ متواضعة وأصيلة، لفنٍّ خالٍ من السخرية والتكلّف.

 

المغنية الفرنسية ميراي ماتيو. (أرشيفية)
المغنية الفرنسية ميراي ماتيو. (أرشيفية)

 

جوني ستارك أضاء نجمها، وكما في مسرح "الأراجوز"، حرّكها في فضاء حدّد ملامحه بنفسه. ذات يوم، قال لها: "كفى لعبك دور خيال بياف؛ انزعي هذا الفستان الأسود واظهري كما أنتِ: فتاة في العشرين تُنشد الحبّ المأسوي، وكذلك سعادة الحبّ".

وستارك كلّما أراد شيئاً حصل عليه. نجح في التسويق لطفولة ميراي المأسوية ومعاناتها مع الفقر، فكان له ما أراد من تعاطف وتفاعل واسع. وكما قال الصحافي والناقد الراحل سمير نصري في "النهار": "جعل منها الفتاة التي تحلم جميع الأمهات في تبنّيها". وكتب نصري في تموز/يوليو 1974، عشية حلول ميراي في لبنان للغناء في مهرجان جبيل حيث حضرها نحو 20 ألف شخص (سُجّل الحفل على أسطوانة 33 لفّة عبر "الشركة اللبنانية للأسطوانات"): "ظلّت سنين ممنوعة من الكلام مع أيّ صحافي من دون وجود ستارك إلى جوارها. أحاطها بسكريترات، بثلاثة حراس خاصين وعدد من المستشارين، منهم صحافي سابق مهمّته أن يعلّمها كلّ كلمة تبوح بها في وجود صحافي أو أمام ميكروفون. ويُحكى أنّها حتى في السنوات الثلاث الأولى كل شيء كانت تريد قوله كان يمرّ على إحدى سكريتراتها قبل الوصول إلى الآخرين: كان يخاف أن يسمع أحد لهجة أفنيون التي تنطق بها".

الثبات والإيمان
لم تُخفِ ميراي ماتيو يوماً إيمانها. في عالمٍ تغمره التناقضات وتتحكّم به الصورة، حافظت على تلك الاستقامة النادرة. علاقتها بالله متواضعة لكنها لا تتزعزع. لا تقدّم نفسها واعظةً، بل شاهدة على القدرة الإلهية. كثيراً ما تقول إن صوتها وُهب لها كعطيّةٍ يجب أن تصونها. وقبل كلّ حفل، تصلّي. القديسة ريتا، "شفيعة الأمور المستحيلة"، ترافقها في جولاتها كما الرفيقة الصامتة.

هذا البُعد الروحي يسري في فنّها كنسغٍ خفي؛ أغانيها العاطفية صلوات مستترة بثوب الغناء. حين تؤدي "امرأة عاشقة" أو "إيماني"، يسمع المرء في صوتها البعد الإنساني والمقدّس معاً. عندها، لا يتقابل الحبّ والإيمان ولا يتعارضان... يُضيء أحدهما الآخر.

 

المغنية الفرنسية ميراي ماتيو. (أرشيفية)
المغنية الفرنسية ميراي ماتيو. (أرشيفية)

 

أولئك الذين يرون فيها شخصية لا تتزعزع، يجهلون الآلام التي شكّلتها. كانت البدايات قاسية؛ عانت عُسر القراءة كمعركةٍ يومية، وإرهاق العمل في المصنع قبل أن تصل إلى المسرح كواقعٍ لا مفرّ منه. ثم جاءت الانتقادات لاحقاً: "ناعمة أكثر من اللازم، تقليدية، مثالية أكثر مما ينبغي". سمعتها كلّها، وكان جوابها واحداً: أن تغنّي من جديد، بصدقٍ أكبر، وبروحٍ أعمق.

تبدّلت الأذواق، وتعاقبت العقود، وبقيت ميراي ماتيو. لا عناداً، بل وفاءً لنفسها، لجمهورها، ولتلك الفكرة البسيطة التي ترى في الغناء ما يفوق المهنة. وبينما يتآكل كلّ شيء بسرعة، اختارت أن تدوم، وصارت كلاسيكيتها ثروتها.

أيقونة بلا غرور
هيئتها التي تكاد لم تتغيّر منذ نصف قرن، أصبحت رمزاً بحدّ ذاتها. تسريحة متقنة، وقفة مستقيمة، وابتسامة هادئة، كلّ شيء فيها يبدو محسوباً، يتنفّس صدقاً وبساطة. لا تسعى إلى الاستفزاز، ووفيّة لصوتها وقيمها ولغتها. وهذا الوفاء هو ما جعلها عالميّة. اللبنانيون يحتفظون بذكرياتهم معها وبصورها في سوق النورية البيروتي، وعلى ظهر جملٍ في بعلبك، وعلى مسرح جبيل. في روسيا تُعامَل كقدّيسةٍ فنّية، في ألمانيا تُعدّ أسطورة، وفي اليابان تكاد تكون شخصية روحية. أينما حلّت، تتكرّر المشاعر ذاتها: مزيج من الاحترام، والمودّة، والامتنان.

تنتمي ميراي ماتيو إلى تلك الفئة النادرة من المغنيات اللواتي حوّلن البساطة إلى فنٍّ رفيع. اختارت الخلود بدلاً من الحداثة وتبدّل الأذواق، وربّما هذا ما كلّفها وصمة التقليدية والابتعاد قليلاً اليوم من قوائم المبيعات والاستماعات. لكنّها فضّلت أن تترك بصمة زمنٍ كان لا يزال يؤمن بجمالٍ مستقيم.

واليوم، تبدو ميراي ماتيو (79 عاماً) مقبلةً على الحياة من جديد، تتنفّسها كما الأطفال، وتنظر إلى الأفق بإيجابية وفضول. ومع ألف ومئتي أغنية في اثنتي عشرة لغة وثلاثة آلاف حفلة حول العالم، تحتفل هذا العام بمرور ستين عاماً على انطلاق مسيرتها، مع جولة احتفالية تبدأ بثلاث حفلات في "الأولمبيا" الذي شهد صعودها نحو مصاف "سفيرة الأغنية الفرنسية"، قبل الانتقال إلى سويسرا وبلجيكا ثم ألمانيا وبلدان أوروبا الشرقية وصولاً إلى كندا عام 2027.

ربما لا نفهم ميراي ماتيو حقّاً إلا عندما نراها تُغمض عينيها على المسرح؛ عندها فقط نُقابل طفلة أفينيون، المرأة الوفيّة، المؤمنة الصامتة، والديفا البعيدة من الدراما. صوتها يسعى للارتقاء، لا للهيمنة، هي التي، في زيارتها الأولى لبيروت، قالت لـ"النهار" إنّها تحب أن تكون ميراي ماتيو "لو لم تكن إيّاها".

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 10/22/2025 3:51:00 PM
لا يمكن اعتبار هذا التراجع "انهيارًا" أو حتى "تصحيحًا"، نظرًا لارتفاع الأسعار الكبير. لا تزال المعادن تحقق أرباحًا جيدة هذا العام، حتى بعد التراجعات الأخيرة
لبنان 10/20/2025 8:03:00 PM
تتشكل هذه السحب العدسية عادة على ارتفاع يتراوح بين 2000 و5000 متر فوق سطح البحر، عندما يتدفق هواء رطب ومستقر فوق الجبال
لبنان 10/22/2025 7:56:00 AM
صحيفة "جيروزاليم بوست": الطريق إلى النزع الكامل لسلاح حزب الله لا يزال طويلاً