قراءة في "أنطولوجيا الفنون التشكيلية في لبنان" لرمزي الحافظ: شهادة عميقة على الوجود والذاكرة وقدرة الفن على النجاة

ثقافة 22-10-2025 | 15:46

قراءة في "أنطولوجيا الفنون التشكيلية في لبنان" لرمزي الحافظ: شهادة عميقة على الوجود والذاكرة وقدرة الفن على النجاة

هذا الكتاب لا يقدّم الفن كترفيه أو رمز جامد، بل كخبرة شخصية ووسيلة للبقاء.
قراءة في "أنطولوجيا الفنون التشكيلية في لبنان" لرمزي الحافظ: شهادة عميقة على الوجود والذاكرة وقدرة الفن على النجاة
"أنطولوجيا الفنون التشكيلية في لبنان" لرمزي الحافظ.
Smaller Bigger

هناك كتب تُقرأ بتقاطعات الحس أكثر من ترتيب الصفحات، كتب تُفتح لتأكيد أن شيئاً ما لا يزال ممكناً رغم كل الظروف. "Anthology of Visual Arts in Lebanon" "أنطولوجيا الفنون التشكيلية في لبنان" لرمزي الحافظ ينتمي إلى هذا النوع من الكتب، الذي يحاول حفظ ما تبقى من ملامح بلد قبل أن ينزلق من الأصابع. هذا الكتاب لا يقدّم الفن كترفيه أو رمز جامد، بل كخبرة شخصية ووسيلة للبقاء. قراءة الكتاب تشبه فتح صندوق ذاكرة مليء بالصور والأوراق والأسماء التي نجت من النسيان بالمصادفة، حيث كل عمل فني يحكي قصة حياة، ويبدو وكأنه أثر ناجٍ من الزمن.

من البداية، يتضح أن الكتاب يتجاوز كونه دليلاً فنياً اعتيادياً. الأسماء لا تُرتب ضمن تصنيفات زمنية جامدة، بل يُعرض كل فنان ضمن سياق إحساسي، حيث التاريخ ليس مجرد تسلسل للسنوات، بل طبقات تحت الجلد تحكي التجربة الإنسانية. البدايات التي يتناولها الكتاب تشمل الأيقونات الدينية، حيث اللون محكوم بقداسة الصورة والفنان منفذ لرؤية لاهوتية. ومع ذلك، تظهر لمحات دقيقة من التجريب: لمسة لون مختلفة، ميل خفيف في الوجه، محاولة لإدخال جزء من الواقع البشري داخل الرسم المقدس. هذه التفاصيل الصغيرة تشكل أولى خطوات الحرية التشكيلية، التي تبدأ بانحراف دقيق عن القاعدة، وليس بإعلان ثوري.

الانتقال إلى داود القرم وحبيب سرور يصور لحظة ولادة النظرة الحديثة إلى الصورة، حيث أصبح الوجه البشري موضوعاً للرسم بوصفه تجربة خاصة تستحق الانتباه. اللوحات لم تعد حكراً على الكنيسة، بل دخلت البيوت، لتصبح انعكاساً لحياة الفرد، تجربة خاصة للمتلقي. هذا التحول يمثل صداقة جديدة بين الإنسان والصورة، علاقة قائمة على الملاحظة والتفاعل العاطفي، تجعل كل عمل فني وسيلة للاعتراف بالوجود وتقديره.

جيل الرحلات إلى أوروبا، مثل عمر أنسي، مصطفى فروخ وصليبا الدويهي، لم يتلق التعليم الأوروبي كطلبة مقلدين، بل كمسافرين يعودون بعين مختلفة بعد التعرف الى العالم. القرى التي رسمها فروخ ليست مجرد أماكن، بل محاولات لتثبيتها في الذاكرة، والضوء الذي رسمه أنسي يعكس رغبة في الإمساك بلحظة قبل أن تضيع. كل لوحة تتحدث عن نفسها: الجبال تتحول إلى كتل روحية، القرى تبدو كنداء خافت نحو الاستقرار، واللوحات تصبح أرشيفاً مبكراً لبلد يشعر بغيابه حتى في زمن السلم. هذه الطريقة تجعل القارئ يلمس التجربة الفنية كجزء من التاريخ الشخصي والجماعي.

مرحلة الحداثة تُعرض بأسلوب متأنّ، بعيد عن الاحتفالية. شفيق عبود، سلوى روضة شقير ورفيق شرف يظهرون كأشخاص يسعون إلى الجوهر قبل أن يشوهه الشكل. عند عبود، اللوحة تكثف ما تبقى في الذاكرة، وعند شقير، الحجر نفسه يتحول إلى كائن يفكر، حيث تصبح المنحوتات أسئلة شكلية هادئة حول الخط والفراغ والكتلة. هذه الأسئلة تتضح في طريقة عرض الأعمال داخل الكتاب، دون الحاجة إلى كلمات، فتُشعر المتلقي بالبحث الدائم عن المعنى.

 

صفحتان من كتاب رمزي الحافظ.
صفحتان من كتاب رمزي الحافظ.

 

النحت في لبنان يُعرض بخصوصية، خاصة أعمال الإخوة بصبوص، التي تظهر كحديث طويل مع المادة. كل قطعة نحتية تحمل قدرة على إعادة تشكيل الصخر القاسي، بما يعكس لبنان نفسه، مع الاحتفاظ بالبعد البصري والاستعاري دون الحاجة إلى خطاب مباشر. النحت يصبح وسيلة لتوثيق التجربة الملموسة، والفن هنا يتجاوز الشكل التقليدي ليصبح شهادة على المقاومة اليومية.

الحرب تتسلل تدريجياً إلى الصفحات، حيث تغيّر الألوان، تقلص المساحات، وتغيّر أفق اللوحة. القارئ يشعر بالتحوّل في المشهد قبل أن يسمع عن الحدث، لأن الكتاب يعرض الحرب كتجربة حسية وفنية قبل أن تصبح سياسية. بعد الحرب، يظهر جيل الفن المفاهيمي والتصوير الفوتوغرافي، حيث تتحول الوسائل: الكاميرا تصبح عيناً تبحث عن الحقيقة، والفنانون مثل وليد رعد، أكرم زعتري، جوانا حاجي توما وخليل جريج يصبحون حراساً لذاكرة مهددة، يطرحون أسئلة حول ما هو حقيقي وما يحدد الصور الرسمية للأحداث، ويجعلون الفن وسيلة للتساؤل والتوثيق.

الكتاب يصل إلى ذروته حين يتحول الفن إلى الأرشيف الوحيد الممكن. في زمن تفتقر فيه الدولة والمؤسسات لجمع ما تشتت، يقوم الفنانون بالتقاط الصور، جمع الفيديوهات العائلية، وإعادة بناء المشاهد من الذاكرة، ليؤكدوا أهمية الاحتفاظ بالشظايا. البياض بين الصور يصبح جزءاً من الشهادة، والكتاب يتيح للقارئ الفرصة لإدراك المسؤولية تجاه ما تساقط من الذاكرة، ويمنحه شعوراً بالمشاركة في عملية حفظ الفن اللبناني.

الاهتمام بالفنون الجديدة مثل السيراميك يعطي الكتاب بعداً إضافياً، حيث يتحول الطين اللبناني إلى حامل لتعب الأرض والذاكرة، والتشققات على القطع تشبه جدران المنازل التي تأثرت بالمطر والملح، مما يمنح هذه الأعمال صدىً خاصاً يعكس الحياة اليومية. الجداريات أيضاً تتحول إلى فعل جماعي مقاوم: الجدار في بيروت يصبح مساحة لترك أثر قبل أن يُمحى، والفنان يعبر عن رغبته في التغيير والبقاء، فتظهر مقاومة صامتة في المدينة، وتصبح الأعمال شهادة على استمرار الحياة والفن معاً.

الأثر الأخلاقي للكتاب يكمن في شعوره بالمسؤولية تجاه ما تساقط من الذاكرة. الكتاب يعلن أنه محاولة لجمع ما يمكن جمعه، ويجعل القارئ شريكاً في المهمة، مشاركاً في تقدير الفن اللبناني وحفظه. الصفحات الأخيرة توحي بأن هناك أعمالاً لم تُطبع بعد، أسماء لم تُذكر، وصوراً تنتظر من يفتحها، وفنانين رحلوا قبل أن يعرف أحد أنهم رسموا، ويدعو القارئ إلى إدراك قيمة كل عمل فني كجزء من ذاكرة حية.

كل صفحة من الكتاب تحمل رسالة صامتة، تحكي عن الضوء، المكان، الأشجار، والأسماء الملونة على الجدران، لتؤكد أن الحياة والفن مستمران، وأن الحفاظ على الذاكرة واجب جماعي. الرسالة النهائية واضحة: لقد عشنا هنا، ورأينا هذا الضوء، ورسمنا الأشجار، وتركنا آثارنا، كي لا يُمحى ما كنّا. هذه الصياغة تجعل الكتاب أكثر من مجرد سجل فني، إنه شهادة عميقة على الوجود، على الذاكرة، وعلى قدرة الفن على النجاة.

 

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/23/2025 5:18:00 PM
المدوّن الإسرائيلي: يجب أن أريكم كيف تبدو سوريا في عام 2025
سياسة 10/23/2025 8:30:00 PM
اعتداء إسرائيلي جديد على جنوب لبنان...
اقتصاد وأعمال 10/22/2025 3:51:00 PM
لا يمكن اعتبار هذا التراجع "انهيارًا" أو حتى "تصحيحًا"، نظرًا لارتفاع الأسعار الكبير. لا تزال المعادن تحقق أرباحًا جيدة هذا العام، حتى بعد التراجعات الأخيرة
لبنان 10/23/2025 12:59:00 PM
غارات إسرائيلية عنيفة تستهدف منطقة البقاع