منى رسلان*
كيف يتمظهر النشاط الجمالي من خلال عدسة التصوير الفوتوغرافي؟
قيل أنَّ ميدان الجمال هو ميدان التجرُبة الكامنة المنطوية على ذاتها، وأنّ نتائج الإدراك الجمالي لهي أبسط ، فلا تحتاج منا إلى الانشغال بها، أو حتَّى التفكير في أسباب إنتاج الموضوع الفنِّي أو وسائله.
بناءً عليه، كيف يتجلَّى ذلك في ميدان التجربة الجماليَّةِ؟ خاصَّةً أنَّ التقدير / التذوُّق الجمالي عادةً لا يخضعُ لنُظُمٍ عامَّةٍ، كالنشاط الدينيّ أو الاقتصاديّ.
يستمطر الباحث في عالم الصورة والتاريخ والتُراث الأستاذ الجامعي أيدي شويري من مدارات السُحب، لمحات من الوجود السَّاحر؛ إذ يقيم بعدسة كاميرته وشغفه بالتصوير الفوتوغرافي، علاقة ودِّيةً ما بين الثرى والثُريا؛ ما بين الرحيق المُتطاير، ونسائم السكوت المهيب. ما بين اللَّحظة المتأوِّهة والوجع الفكري وسطوع الحريَّة؛ ما بين النهر الضجر، والصخر تؤرقه الحساسين. ما بين انحسار الدمعة المخيف وسيمفونية بيتهوفن الخامسة. تنتفض صور أيدي شويري على العبثية واللاَّجدوى.

تجيءُ الصورة مَرويات قَصصيَّة، زمنيَّاً، مكانيَّاً، وإرثاً مُجتمعيَّاً وحضاريَّاً وثقافيَّاً ومِعماريَّاً، مُتجذِّرةً في عوالم ماضوية تُختبر حياة المُجتمعات والأمم. فيوفِّر أيدي شويري ضمن هذا التصوُّر، درباً تواصليَّاً يصول ويجول بين الذاكرة الجمعيَّة والتُراث الحضاريِّ والثقافي بأشكالهِ جمَّة، وحضور عيشنا، بخاصيَّة تكامُليَّة ما بين المواد غير الحيَّة (تتمثَّل بالجمادات) في الحياة الساكنة، والموارد الطبيعيَّة الحيويَّة المُتحرِّكة المؤثِرة في الإنسانيّ: جداول وسواقٍ وشواطئ وملاَّحات؛ زهور وأعشاب عطريَّة واستشفائيَّة؛ فراشات وعصافير وحمار ودجاج؛ ونخيل وزيتون وتين وكرز ومُشمس وتين وصبَّار؛ وحجارة "مُقصَّبة" ومداميك ومسارات سواقٍ مُتهلهلة كالندى، وأرائك وثريات وقناطر ومسقوفات وأوانِ فُخَّاريَّة أو خزفيَّة وزُجاجيَّة ونُحاسيَّة؛ أطفال وعجائز وصبايا وشيوخ... عوالم أنشودة فذّة، توَّاقة لاختبار العيش.
ههُنا الأزهار بسكينتها تتسلَّق هياكل المباني، وتشرئِّب الأعشاب وإكليل الشوك مُتألِّقاً نحو الشمس فوق هيكل سكك الحديد؛ ويستحيل التصميم المعماري لوحة رسَّام تشكيلي ولربَّما رومانسي أو واقعي أو بوهيمي أو تجريدي، بتعانق الأخضر والزهري والبنفسجي والأزرق والأصفر والتُرابي الحديدي..، وهُنا يتسامر "الدوري" و"الصلونج" و"التيان" و"الورور الأزرق الخدين" و"النسر الملتحي" و"الباشق" و"المطوق" و"البط".. كُلٌّ في ايقاعه وفرادته بحِرفيَّة مُبهرة.

في لبنان، لن تغيب عنك مرويات مواسم الهجرة. أتظنَّها تهنأ بأفول العُمر؟ وسوسنة أفئدتنا تتوضأ النغم فجراً، وتغزل من السنديان والأرز والصفصاف، زيتونتنا مسكناً موسيقيَّاً للعرعر (اللزّاب).
مشهديَّات تتوالى في المخيال الإنساني مثل سنونوة تُهاجر بين مضاجع القلب والحنين، بين اليقظة والحُلم، والهضاب تتأمُّل الصلاة. هذا ناهيك عن ترانيم طبيعة تتلاقح في ما بينها، من نهيق الحمار ونعيق البومة وصياح الديك ونقيق الضفادع؛ ويضمُّ نسيم الحبق في مضايا الشغاف وردة جوريَّة الحبيب، واللافندر ينفلش في "جب" النعناع، وإكليل الجبل ينمو بفيء شجرة التُفَّاح، والعربيشة تتسلَّق "الحيطان"؛ هُنا في فسيح "بحرة" الديار ترتعش زهرة اللوتس المغناج، رذاذاً من ياسمين وعسل الورد وعسل تُراب، تراقص أضلع نوافذنا التُراثيَِّة، حيثما تُزاحم فسيفساء المكانيَّة غاباتنا العذراء.
فهل تذوُّقت "الحميضة" و"حص" الزيتون وخبز المرقوق؟
هل حدَّثتكَ عن زهر الرُّمان، خميرة اليوسفي ذاك الزمان؟

فمن زاوية واسعة في مدار كاميرا أيدي شويري؛ وفي كل "كادر" ترتسم قدسيَّة المُدن والبلدات اللبنانيَّة، وشوارع بيروت بمعالمها كافة، تلك المُطعَّمة بإبرة تطريز أشغولة لونيَّة شيَّدها السهر، تعلو كـ " أجراس برج ضاع في قرارة البحر" (السيَّاب، بدر شاكر. قصيدة: "النهر والموت").
تستعرض صور أيدي شويري بقضاياها الإنسانية والوجوديَّة وفاعليَّة الحضور، العالم الواقعي وطبيعة لبنان وإنسانه، بألوانها وتكويناتها المُتداخلة حيناً والمُتفرِّدة بذائقتها الفنيَّة حيناً آخر، بانسيابية غير مألوفة، إذ تخلق شعوراً مُلتبساً بين شدَّة الوضوح من ناحية والريبة من ناحية أخرى، موسيقا تُلاعب دراماتيكية الغموض وحميمية الحُريَّة.
تتجسَّدُ "الومضة"، ومضة الصورة الفوتوغرافيَّة بمُستعربات الكوميديا اللونيَّة، أو الدراما الرماديَّة ، بين السخرية أو مونودراما السُخرية المُتفجِّعة. مظاهر كلاسيكيَّة لعيش احساس فيَّاضاً بالفرح، وأحياناً حزين، حزين جداً، حتَّى التفجُّع. تناقضات تتغلغل في عقر الذَّات الإنسانيَّة، تندمج بالحب والانتقام، بالانجذاب اللحظي والفتور.
كأنَّ الاطار "في انتظار غودو" انتفض عشبه، خلع رداء الانتظار ومضى؛ جميعها تستحضرها "ومضة اللحظة" عند شويري لخلق توازن بصري شعوري أخَّاذ في الرُّوح.
فمن تأطير الكادر، وسلوك اتجاهات ضوء الطبيعة والعتمة، يخلق أيدي شويري توازناً بصرياً لصورة جذلة، ويأخذُك في عوالم رحلة ظلال الاحتضان والتشويق، حيث تمتزج فيها خطوط التصوير كالشُعاع يزهو بترفٍ، ويتفتَّحُ كدورة فصول المُتلِّقين انسحاباً ضوئياً نحو النجوم.
تنبُت ومضة فوتوغرافيا أيدي شويري في ذاكرة الجماعة، تنتشلها من إيقاع المخاض العسير، وتوالي السقوط بهندسة هرمية، كي تُعيد انتظامها عبور أرجوانيَّة البوح.
بوح حضور العيش..
* أستاذة النقد الأدبي الحديث والأدب المقارن، أدب ما بعد الحداثة، والمنهجية، في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة - الجامعة اللبنانية.
نبض