بيروت تُنادي نجمات العالم العربي وتُنصت إلى "الديفا"

ثقافة 22-10-2025 | 08:04

بيروت تُنادي نجمات العالم العربي وتُنصت إلى "الديفا"

المرأة هنا ليست كائناً جميلاً فحسب، بل كياناً صاغ الوعي العربي الحديث.
بيروت تُنادي نجمات العالم العربي وتُنصت إلى "الديفا"
ركن السيدة فيروز. (متحف سرسق)
Smaller Bigger

المساء بيروتيٌّ أنيق، يليق بالأساطير. متحف سرسق يفتح أبوابه على وهجٍ من الزمن الجميل. من بين جدرانه البيضاء التي شهدت تحولات المدينة، انبعثت الأصوات التي صنعت ذاكرة العالم العربي: أم كلثوم، فيروز، أسمهان، صباح، وردة، داليدا… أسماء لا تُذكر إلا ويستيقظ معها تاريخٌ من الفنّ والأنوثة الناعمة/الضارية والتمرّد والإلهام. هنا، في قلب الأشرفية، استعاد معرض "ديفا: من أم كلثوم إلى فيروز إلى داليدا" تلك اللحظة النادرة التي التقت فيها بيروت بالفنّ العربي في ذروته، لتكرّم نساءً لم يقدّمن الفن من أجل الفن، بل غيّرن مساره.

تستقبل بيروت المعرض بعد محطاتٍ في باريس وأمستردام وعمّان. المدينة تستعيد دورها الثقافي أخيراً. في الستينيات، كانت، إلى جانب القاهرة، عاصمة للموسيقى العربية. في "التياترو الكبير" غنّت أم كلثوم، وبعده في بعلبك، وعلى خشبة "البيكاديلي" ردّدت فيروز صوت لبنان، وغنّت صباح للحياة بضحكتها الساخرة من الألم. بين مجدٍ ونكبةٍ وحربٍ أهلية، ظلّت بيروت وفيةً للفنّ، تنقذ ذاتها به.

 

وردة العائدة إلى بيروت. (متحف سرسق)
وردة العائدة إلى بيروت. (متحف سرسق)

 

يعتبر وزير الثقافة الدكتور غسان سلامة، في حديث لـ"النهار"، أنّ "المعرض رائع بحقّ"، ويشير إلى "أمرين أساسيين: أولاً، إلى نهضة ثقافية غنائية وموسيقية وسينمائية عظيمة شهدها القرن العشرون، أسهمت في إدخال المنطقة إلى زمن الحداثة. وثانياً، إلى أنّ المرأة أدّت دوراً محورياً في تلك النهضة، ليس فقط كفنانة، بل كفاعلٍ حقيقي في الحراك الاجتماعي والسياسي آنذاك".

ويضيف: "ربما لم ندرك تماماً أهمية هذا الدور إلا عندما هبّت الرياح المعاكسة التي هبّت في أواخر القرن العشرين، محاولةً إعادة المرأة إلى القمقم بعد أن خرجت إلى فضاء أكثر رحابة وتأثيراً. لذلك، فإنّ هذا المعرض، إلى جانب جماله ووقعه العاطفي الذي يثير الحنين، يحمل أيضاً بُعداً سياسياً من الطراز الأول".

 

فساتين السيدة فيروز. (متحف سرسق)
فساتين السيدة فيروز. (متحف سرسق)

 

بين جارة القمر والصبّوحة
في أروقة متحف سرسق، تتوزع الأركان كما توزّع المشاهد في فيلمٍ طويل ينبش بالذاكرة. ركنٌ مخصّص لفيروز يعرض فساتينها الصغيرة في "قصيدة حب" و"أيام فخر الدين"، تحمل توقيع جان بيير ديليفر ومارسيل ربيز وسامية صعب، الذين حوّلوا الخياطة إلى فنّ بصريّ موازٍ للصوت. إلى جانبها لقطات فيديو نادرة من حفلات أميركا الجنوبية في الستينيات، وصورٌ عائلية من أرشيف المخرج صبري الشريف، تذكّر بأن جارة القمر كانت إنسانة من لحمٍ وحلم، تضحك وتخاف وتصلّي وتحبّ كما نحن، لكنها حين تغنّي، تدخل انخطافاً يشحنها بالمجد الفيروزي.

أما ركن الشحرورة صباح، فعرض للجرأة والفرح. الفساتين التي صمّمها وليام خوري وبابو لحود سعادة تشهد على حقبةٍ من الانفتاح والابتكار، حين كانت الموضة لغةً بصرية تعبّر عن أنوثةٍ حرة. أكثر من 400 فستان صُمّم خصيصاً لها، من بعلبك إلى كازينو لبنان، ليصبح جسدها مسرحاً للضوء الذي صنع ضحكات أهلنا، وحضورها احتفالاً مستمراً بالبهجة. تعود صباح إلينا رمزاً لتحرّر المرأة في مجتمعٍ يحاول كبحها، تواجهه بالضحك والغناء وعصف الألوان.

 

فستان لداليدا من إبداع وليام خوري. (متحف سرسق)
فستان لداليدا من إبداع وليام خوري. (متحف سرسق)

 

يصف رئيس معهد العالم العربي جاك لانغ المعرض بأنه "حدث تاريخي بكل معنى الكلمة"، إذ، بالنسبة إليه، "يضيء على إسهامات نساء مدهشات، باهرات، شجاعات، وموهوبات تركن بصمة عميقة في مسار الثقافة وفي مسيرة النساء على حدّ سواء".

ويرى في حديث لـ"النهار" أنّ "نساء المعرض هنّ من أولئك اللواتي امتلكن جرأة أن يكنّ أنفسهنّ، وشجاعة التعبير عن أنوثتهنّ بكلّ تفرّد وبريق وموهبة".

خلود وتمرّد
قوّة المعرض أنّه لا يحصر نفسه بالنوستالجيا، بل يقدّم نفسه كقراءة عميقة في معنى أن تكون امرأة في عالمٍ لا يرحم. جميعنا نُدرك الفخاخ التي نصبتها الحياة لداليدا، مثلاً. أم كلثوم التي أطربت الشرق والغرب بصوتها كانت سلطة ثقافية، ومثالاً على صعود نساءٍ نحو المجد. صوتها وطن يُسمع من المغرب إلى الخليج، يربط العاطفة بالهوية. أسمهان كانت الوجه الأكثر هشاشة، فنانة من الضوء والظلال، ضاعت بين الحرية والقدر. ووردة الجزائريّة، التي جمعت بين باريس وبيروت والجزائر، كانت صوتَ المقاومة والحبّ في آنٍ واحد. أمّا داليدا، فهي الوجه المتوسّطيّ للمنفى، تلك التي غنّت بلغاتٍ ثلاث ولم تجد وطناً، ولا قلباً، إلا في الأغنية.

 

خزانة أم كلثوم. (متحف سرسق)
خزانة أم كلثوم. (متحف سرسق)

 

في جناح الفنانين المعاصرين، تعيد رانيا اسطفان من خلال فيلمها "اختفاءات سعاد حسني الثلاثة" تركيب مأساة "السندريلا" من لقطات أرشيفية، فيتحوّل الفيديو إلى مرثيةٍ صامتة عن الأنثى العربية الممزقة بين الأضواء والعزلة.

فنّ الأنوثة وأناقة الذاكرة
لم يكن ممكناً لهذا المعرض أن يكتمل من دون تحية من عالم الأزياء. قدّم المصمم العالمي إيلي صعب فيديو بعنوان "تحية إلى الديفا"، تأملٌ بصريّ في وجوه النساء اللواتي ألهمنه منذ بداياته. في كلماته وصوره، يمرّ شريط الذاكرة: أم كلثوم بكبريائها، فيروز بصفائها، صباح ببريقها، داليدا بوجعها. كلها وجوهٌ جمعت بين الجمال والقوة، بين الأناقة والرسالة.

المرأة في هذا المعرض ليست كائناً جميلاً فحسب، بل كياناً صاغ الوعي العربي الحديث. هي التي خرجت إلى المسرح لتغني، بينما كانت مجتمعاتها تغلق الأبواب. غيّرت شكل الحضور النسائي، لا بالصوت فقط، بل بالمعنى: أم كلثوم جعلت من الفنّ منبراً قومياً، فيروز من الغناء صلاةً وطنية، وردة من الأغنية التزاماً، صباح من المسرح حياةً، وداليدا من الحزن قصيدة خلود.

 

وجوه مصرية أسطورية. (متحف سرسق)
وجوه مصرية أسطورية. (متحف سرسق)

 

بيروت، الأنين والحنين
ما يجعل "ديفا" في بيروت تجربة مختلفة هو السياق. المدينة تلعق جراحها، ومع ذلك تفتح صدرها معرضاً يحتفل بالحياة. المعرض ضوء يأتي كحاجةٍ جماعية إلى الفرح واستحضار الذاكرة. لا بأس إن تعلّقنا بشيء من الماضي ليُنسينا مآسينا. صوت فيروز يطبطب على أرواحنا المرهقة، وصور النجمات على الجدران تلمع، نظراتهنّ تغوينا، تذكّرنا أننا، رغم كلّ شيء، لا نزال نحلم.

تقول مديرة متحف سرسق كارينا الحلو إنّ "أهمية المعرض تكمن في كونه أول معرض عالمي تستقبله بيروت منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية قبل خمس سنوات، وهو بذلك يشكّل حدثاً استثنائياً يعيد إلى المدينة شيئاً من وهجها الثقافي".

 

فيروز وأسمهان في المعرض. (متحف سرسق)
فيروز وأسمهان في المعرض. (متحف سرسق)

 

وتشير لـ"النهار" إلى أنّ المعرض، "بما يحمله من فرح وحنين وجمال بصري وإنساني، يأتي ليمنح الناس فسحة احتفال هم في أمسّ الحاجة إليها... يخاطب كلّ الأجيال، ويُسعد خصوصاً العائلات والجيل الجديد الباحث عن صلةٍ صادقة مع ماضيه الثقافي المشرق".

لا نقف هنا أمام جمادٍ، ولا أمام نصبٍ تذكاريّ أخرس، إنّما ندخل زمناً نابضاً شغلته المرأة. وها هي "ديفا" تبرهن أنّ صوت امرأةٍ واحدة يمكن أن يغيّر وجه مدينة. بين أم كلثوم التي غنّت للوطن، ووردة التي غنّت للحب، وفيروز التي صلّت للحبح والحياة، تبقى بيروت هي المسرح الأبدي، والأنشودة التي لا تنطفئ.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/15/2025 3:17:00 PM
طائرة مستأجرة تضم فلسطينيين تختفي عن الأنظار ثم تهبط فجأة في جوهانسبرغ بظروف غامضة.
النهار تتحقق 11/15/2025 9:19:00 AM
"تقول السلطات إن الأمر كله مرتبط برجل واحد متهم...". ماذا عرفنا عن هذا الموضوع؟  
لبنان 11/15/2025 11:45:00 AM
وثّقت الحادثة كاميرا المراقبة، فيما لاذ المعتدي  بالفرار