رؤوف مسعد... عاش هارباً من إرث رؤوف مسعد!

للقدر مفارقات غريبة طريفة؛ مات صنع الله إبراهيم وبعده بأسابيع قليلة لحق به رؤوف مسعد، بنفس ترتيب الولادة في العام نفسه؛ ولد صنع الله أولاً في شباط/فبراير وتلاه رؤوف في آذار/مارس عام 1937 وودّع الاثنان عن ثمانية وثمانين عاماً.
أيام اليسار
انتمى الاثنان إلى حركة اليسار المصري في خمسينات القرن الماضي وستيناته وتعرّضا لمحنة الاعتقال والسجن، وعملا بالصحافة، وكتبا أدباً صدامياً، وكلها أسباب كافية للتهميش والاستبعاد "الرسمي".
استقلّ الكاتبان عن التظيمات السرية وأيقنا أن الأدب أهم وأبقى، وإن كان لا يعني ذلك القطيعة وعدم الانشغال بالهم السياسي والتعليقات على ما يدور حولهما. فقط الالتزام أخذ نسقاً إبداعياً وليس تنظيمياً.
هذه الصورة العامة المتطابقة - إلى حدٍ ما - تخفي تفاصيل كثيرة متناقضة لا يمكن تجاوزها.
صنع الله ابن القاهرة العاصمة المركزية بكل هيمنتها، ومن طبقة اجتماعية مستقرة لأب موظف عندما أراد تسميته فتح المصحف فوقعت عيناه على كلمة "صنع الله".
رؤوف صعيدي أسمر ولد في السودان لأسرة "قبطية فقيرة" لجأ أبوه إلى الكنيسة البروتستانية متخلياً عن الكنيسة الأم "الأرثوذكسية" أملًا في فرص أفضل وضمان تعليم مجاني لأطفاله. أي أنه نشأ في أقصى الهامش منتمياً إلى أقلية داخل الأقلية الدينية، مضافاً إلى ذلك الفقر الذي هزم والده وأصابه بمرض خطير، ما تطلب من رؤوف أن يعمل في أي شيء كي يبقى على قيد الحياة بما في ذلك تنظيف المراحيض خلال تجربة سفر.
مركزية النشأة الحاضنة لصنع الله انعكست على وعيه بنفسه واستبساله في أن يصبح هو نفسه "مؤسسة" مستقلة عن المؤسسة الرسمية مكرساً لأدبيات اليسار، والاستمرار في مشروع سردي غزير. على عكس رؤوف الذي ظل يهرب من هامش إلى هامش، فاراً من عار لا ذنب له فيه، من انتماءات قد يتعامل معها الآخرون كأنها "وصمة" بما فيها لون بشرته.
أكثر مزاجية
رؤوف أكثر غضباً من صنع الله، وأكثر مزاجية، وطبيعي أن تكون لديه رواية بعنوان "مزاج التماسيح" بطلها يحاول الفرار والتخفي. بطريقة ما، أبطال رؤوف مسعد متورطون في أفعال وفي عالم مسكوت عنه، ويسعون إلى الفرار باعتباره خلاصاً.
زرع صنع الله حياته ومشروعه في مسقط رأسه "حي مصر الجديدة"، أما رؤوف فعاش طوافاً عبر المنافي من السودان إلى مصر وبغداد وبيروت التي كانت تناسب مزاجه لولا صدمة الاجتياح الإسرائيلي، ليستقر أخيراً في منفاه الاختياري الأخير في هولندا.
نظرة إلى الجسد
بعيداً من انحياز الكاتبين إلى المهمشين وفضح أساليب السلطة، كالتزام سياسي مبكر، لنتأمل "الجسد" في تجربة الكاتبين، كفضاء للصراع الاجتماعي والسياسي والديني، ومحفز للإيروتيكا.
تغلب على صنع الله نظرة تلصصية إلى الجنس، بحيث يحضر ثقب الباب - ولديه رواية اسمها "التلصص" - وتحضر المجلات الفنية الملونة ونجمات الإغراء كأيقونات وصور.
بينما يتورط أبطال مسعد - وهم تشظيات نفسه وتجربته - في تجارب جنسية صاخبة وخلاسية.
لذلك، مهما أثارت روايات صنع الله الغضب ظلت متاحة وتحظى بالقبول وقد تطبع في دور نشر حكومية مثل "دار الهلال". أما أعمال رؤوف القليلة فغالباً لن تعجب السلطة ولا العوام من المسلمين والمسيحيين، وبعضها يدخل ضمن "المحظورات"، ففي شبابنا الباكر كنا نتبادل روايته الشهيرة "بيضة النعامة" بنسخة مصورة لأنه كان من الصعب الحصول عليها، وبالفعل أصدر أكثر من كتاب مع الحاج "مدبولي" أجرأ ناشر عربي آنذاك.
حياة سينمائية
على المستوى الاجتماعي، احتفظ صنع الله بزوجة واحدة، أما رؤوف القبطي فلديه أكثر من تجربة زواج، إحداها من زوجة بولندية حيث عاش بضع سنوات، لكنها انفصلت وأخذت طفلهما ولم يعد يعرف عنه شيئاً. لذلك لا تصلح حياة صنع الله المستقرة جداً لأن تصبح فيلماً سينمائياً مقارنة بحياة رؤوف الذي قد ينسى أنه كاتب ولا يبالي بإصدار رواية كل عام.
عاش الجزء الأخير من حياته آمناً مستقراً في هولندا حاملاً جنسيتها لكنها عيشة الهارب الأبدي الذي ظل متعلقاً بكل تفاصيل المآسي في عالمنا العربي يكتب ويعلق عليها، يتصادم ويتصرف بمزاج القلق والغضب.
أدرك في منفاه الهولندي أن المناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي في العالم العربي لن يتحمل سخطه وتمرده.
الكثير من مغامرات صنع الله السردية ضمنها صفحات من سيرته الذاتية، وإلى حد ما، يتفق معه رؤوف مسعد في التوجه ذاته، لكن بجرأة أكبر. صنع الله لم يتجاوز أدبيات اليسار بما في ذلك رفضه جائزة وزارة الثقافة المصرية، أما مسعد فتمرد حتى على اليسار نفسه.
في أحد أيام الشباب والثورة اشترك الكاتبان في كتاب عن "السد العالي" رمز الدولة القومية والمشروع الناصري، وبينما حافظ صنع الله على نضاله خالياً من الشوائب، تجرأ رؤوف وسافر كصحافي في مهمة للتلفزيون الهولندي إلى "إسرائيل"! ونشر ذلك في كتابه "في انتظار المخلص: رحلة إلى الأرض المحرمة".
لم يفعل ذلك بمنطق الضغف ولا الاستتابة ولا القفز من معسكر إلى غريمه، بل بمنطق المغامر المتمرد، الساعي نحو فهم أفضل للآخر حتى لو كان عدوه التقليدي. فهو مستعد لتغيير أحكامه وقناعاته، وليس لديه ما يخسره أو ما يقاتل من أجله إلى الأبد.
بالطبع الموقف كان محبطاً لرفيق الدرب صنع الله إبراهيم، وكسراً لثوابت لا يجب كسرها!
كان رؤوف واعياً بحق الإنسان في اختبار فرضياته، وتجاوز ما اعتاد عليه من سلوك وقيم وشعارات، أو على حد تعبيره الهزلي "أصدقائي يقولون إن عندي جنونة".
وهو يهدي "مزاج التماسيح" إلى ابنته "يارا" وابنه "ديددي" من زوجته الهولندية، "آملاً أن يعيشا في عالم يسوده التقبل الديني، والعرقي... عالم لا يتحكم فيه العسكر والمليشيات الدينية... لا تسوده أوهام تجار الدين وتجار السلاح وأكاذيبهم".
لم يرد رؤوف مسعد أن يصبح خادماً للكنيسة كما رغبت أسرته، ولا أن يتحول انتماؤه لليسار إلى قيد يكبل روحه، هو الهارب من كل القيود. بل ظل يتوق إلى الخلاص من كل المافيات التي تسرق أرواح البشر وتغرس الكراهية في ما بينهم.
دفع عبر حياته ومنافيه الاختيارية ثمناً فادحاً لمجرد أنه ولد بسمات فرضت عليه العيش في الهامش القاسي، وحرمت موهبته الكبيرة من فرص كان جديراً بها.
عاش هارباً من ذلك الإرث الذي يسكن جيناته ويحمله على ظهره، يكتبه ويفحصه عبر نصوصه كأنه إرث شخص آخر، يتجاوزه غاضباً أحياناً ومتصالحاً معه أحياناً بحكمة السنين.
انتسب ابن القس الغاضب فقط الى نفسه وكلمته وليس إلى كنيسة ولا سلطة، بما فيها سلطة اليسار نفسه. جرّب وتعلّم وأخطأ واعتذر كي يصبح حراً يعيش كما يقول ويعيش ما يؤمن به.
وتكرّر المفارقة ذاتها، فصنع الله في محنة مرضه وبما أنه مؤسسة في ذاتها، أجبر اسمه وجمهوره المؤسسة الرسمية على رعايته صحياً وتلقي العزاء فيه، أما رؤوف مسعد فرحل كأنه مات فجأة؛ لم يمنح المؤسسة الرسمية فرصة رعايته ولا تطويبه والاعتراف به.
عاش رؤوف مسعد رحالة يحمل من متاع الدنيا حقيبة خفيفة، ورحل زاهداً في أن تمر جنازته تحت الضوء وفي حراسة الأتباع مثلما عاش متمرداً على كل ما انتمى إليه.
تنطبق عليه جملة كازانتزاكيس الشهيرة : "لا آمل في شيء، لا أخشى شيئا، أنا حر".