هيرمان هسّه: صدقوني... مسرّات الحياة بسيطة!
 
                                    غلبني المرض وأقعدني عن العمل، فغلبته بـ"مسرّات الحياة البسيطة"، وهي ترجمة أحمد الزناتي العربية لكتاب الألماني هيرمان هسيسّه On Little Joys. وبين عثرات الحمّى، أعانني الثنائي هسّه – الزناتي على ألا أفقد بوصلتي، فالمؤلف يدرك أين تختبئ سعادته، والمترجم يعرف أين تستتر مسرّات هسّه.
بين ضفتي الكتاب مختارات من مقالات هسّه وقصصه وقصائده، ورسائل صادرة عن روح عايشت تمزقات القرن العشرين من دون أن تسأم حياةً تجمّلها أشياؤها الصغيرة. وأن أقرأ هذا الكتاب يعني أن أنسى الأسى، وأن أتنبّه إلى ما أنا غافل عنه، ففي غفلتي هذه تضيع مني تفاصيل تضم مجتمعةً سعداً هو أمامي ولا أراه. يقول هسّه في مقالته "في مديح المسرّات الصغيرة" (1905) إن أخطر عدو لفرح الإنسان هو هوس هذا الإنسان بالاستعجال". وبعد 120 عاماً، أراه على حقّ: إننا في عصر السرعة، فنسابق أنفسنا وغيرنا فننسى كل مقومات بقائنا وديمومتنا. لذا، يحثنا هسّه على أن "انظروا إلى السماء فيما أنتم سائرون إلى أعمالكم، وتنبّهوا إلى ذلك الضوء فوق سطوح المنازل، وإلى طيب يضوع من زهرة صغيرة على المكتب". لا أظنه رومانسياً هذا الألماني العتيق، ولا ساذجاً، إنما في قوله هذا  تتكثف فلسفة الديمومة، ففي صغير المتع تكمن الراحة اليومية، وليس في كبيرها.
لمن يبحث عن الفلسفة، لن يجد في هذا الكتاب ضالته، إذ فيه مقالات تأملية وقصص قصيرة وقصائد ورسائل... وكلها نصوص محورها ثنائيات مثيرة: حب وخسران، شباب وشيب، وحدة وأنس، وهكذا. وبينها كلها قاسم مشترك: هدوء هسّه في تعريفه الوجود... "السعادة في التفاصيل البسيطة". جملة اصطلاحية معبرة لا تدّعي امتلاكها عصاً سحرية، إنما تقدم إليّ وصفة قديمة للهناء: "الاعتدال في المتعة، وعدم إغفال الأفراح الصغيرة... مثل صرف ساعة كاملة أمام لوحة واحدة في معرض فني، بدلًا من نقل العينين بين لوحات المعرض كلها، فحياتنا ليست سباقاً محموماً، إنما هي طبق شهي يجب أن نتلذذ فيها ببطء.

ذكّرتني الترجمة العربية باحتفاء هسّه بالطبيعة، وكنت قد نسيته. فالطبيعة في قاموسه ليست إطاراً جميلاً لهذه الحياة، إنما هي أحد المعالم الروحية داخل هذه الحياة. ومتعةٌ قراءته وهو يكتب عن الشجرة بصفتها كائناً رؤيوياً متمهلاً في عيشته، وفي صوغ أفكاره، ولا يعرف للعجلة معنى. وبحسبه، أن أركن إلى هذه الشجرة الحكيمة لا تعني البتّة أن أهجر الحضارة، إنما أن أستعيد توازناً فقدته في لحظة غفلتي عما تريد هذه الشجرة أن تخبرني به. 
حسناًُ. هسّه مثالي قليلاً. ففي حياة صارت ملكاً لمن ينجز أكثر في وقت أقل، لا أملك ترف الاستغراق في التأمل مع صديقتي الشجرة، ولا يسعني التهرّب من إيقاع سريع فرضته علي التكنولوجيا، لكنني أعدك بألا أصل إلى خلاصة دسستها في كتابك هذا: "الناس في ذهول باهت لا حبّ فيه"، من دون أن تعطيني حلاً. وخلاف ذلك، اكتفيت بسرد وصفة فردية للنجاة من هذا الذهول. حتى في "رسالة وداع" التي أتت محاولةً منه للتعبير عن مشاعر ما عبّر عنها من قبل. فبعدما أنبأه الطبيب بأنه سيُصاب بالعمى، احتار كيف سيودّع أشياءه آخر مرة، فلن يراها بعد ذلك. حتى في هذه، ما أمدّنا بفلسفة للعامة، إنما ذهب مذهب التفرّد، متحدثاً عن مشاعره الخاصة، وتركنا في عجزنا عن التعبير عن أنفسنا!
ليس "مسرّات الحياة البسيطة" كتاباً يُقرأ مرةً واحدة... فقد وجدته جليساً دائماً في لحظات الهدوء. وترجمة الزناتي رشيقة، تثبت دهاءه في التوفيق بين الألمانية والعربية من دون أن يضيعني. لغته بسيطة تماماً كما الحياة التي ينادي بها هسّه نفسه.
 
     
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             نبض
                                                                        نبض
                                                                     
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                