الشارع فنٌّ من باب البحر إلى تونس العتيقة

تونس- أوراس زيباوي
تتواصل في تونس العاصمة الدورة العاشرة من مهرجان "دريم سيتي" أو "الشارع فن" كما يُعرف بالعربية، المخصص بأكمله للأنشطة الفنية والثقافية الموزعة في قلب المدينة العتيقة المسجلة على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو الدولية، وتتنوع بين الحفلات الموسيقية والراقصة ومعارض الفنون البصرية والتشكيلية والعروض السينمائية.
من المؤكد أن اختيار المدينة العتيقة كمسرح وفضاء عام لهذا المهرجان، يضفي عليه طابعا مميزا ويمنحه خصوصية كبيرة تتجلى للزائر ما أن يعبر "باب البحر" الذي يفصل بين تونس الجديدة وتونس العتيقة حيث الأزقة والأسواق المكتظة في الممرات الضيقة وحيث الصروح التاريخية، ومن أشهرها جامع الزيتونة ثاني مساجد تونس بعد جامع القيروان.
تتوزع في القصور والمدارس والمنازل ذات الأفنية الداخلية والأقواس الجميلة التي تختصر جماليات العمارة التاريخية في تونس. في مبنى "ثكنة العطارين" الذي تم ترميمه وتحول الى مركز ثقافي، نشاهد معرضا فنيا شاملا بعنوان "العروسة" من إعداد الأخوين سفيان وسلمى ويسي، وهما أيضا من مؤسسي المهرجان عام 2007. يضم المعرض نماذج جميلة تُوثّق لفن صناعة الفخار النسائية في مدينة سجنان التونسية، وهو مسجل على لائحة التراث لمنظمة اليونسكو الدولية عام 2018. نتعرف الى الأيادي الجميلة التي تتعامل مع الطين بكثير من الحب والحرفية وبأسلوب فني متوارث منذ مئات السنين. المعرض شهادة للابداع النسائي المجهول وتطوره عبر التاريخ وهو مناسبة للحديث عن هذا التراث الشعبي وتحولاته في زمن العولمة.
في الطبقة الأولى من "ثكنة العطارين" يشاهد زوار المهرجان أفلاما لفنانين رواد، منها "المكنسة الكهربائية" للفلسطينية رائدة سعادة (من مواليد أم الفحم عام 1977) تَظهر فيه الفنانة في مشهد سوريالي وهي تستعمل المكنسة الكهربائية لتنظيف تلال فلسطين التي تبدو هنا عارية وخالية من البشر والنبات. في هذا العمل كما في أعمالها الأخرى، تستدعي الفنانة الذاكرة الفلسطينية الجريحة، مركزة على إصرار المرأة على الاستمرار في الحياة رغم كل التحديات التي تواجهها، في أجواء تتداخل فيها السخرية السوداء بالمأساة.
نشاهد أيضا فيلم "بدأنا بقياس المسافة" للفلسطينية المقيمة في برلين بسمة الشريف (من مواليد عام 1983) الذي حاز جائزة بينالي الشارقة عام 2009 ويسترجع وقائع الإرث الاستعماري والبيئة الطبيعية المهددة في غزة وتحديات الحدود الجغرافية والخرائط التي مهدت لما يحدث اليوم من مأساة ودمار شامل في الأراضي الفلسطينية.
الى "المركز الوطني للموسيقى" حيث نشاهد فيلما للمخرج العراقي منير صلاح عن سيرة حياة المغني العراقي الشعبي والشاعر الراحل عزيز علي الذي تمتع بشعبية كبيرة في النصف الأول من القرن العشرين لتناوله القضايا الاجتماعية والسياسية بلغة مباشرة ومميزة لكنه سُجن بسب جرأته في العهدين الملكي والبعثي ومات وحيدا ومنسيا عام 1995. "تتبدل الأنظمة العراقية لكنها تتفق على إسكات الأصوات الحرة والرافضة للظلم"، تلك هي رسالة الفيلم، بحسب قول المخرج منير صلاح.
للبنانيين حضورهم في المهرجان وهم من أجيال مختلفة، أولهم الراحلة إيتل عدنان التي يقام لقاء حولها لمناسبة صدور كتابها "سفر الرؤيا العربي" بالعربية عن دار النشر التابعة للمهرجان بالتعاون مع "مركز جميل للفنون" في دبي. الكتاب 59 قصيدة كتبتها بالفرنسية في بداية الحرب الأهلية اللبنانية مع مجموعة من الرسوم.
من لبنان أيضا يشارك الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج ويقدمان عرض "تميد الأرض بتاريخ أورتوزيا" عن أحوال مخيم نهر البارد في شمال لبنان الذي بُني في الأصل لإيواء العائلات الفلسطينية المهجرة عام 1948. أدى اندلاع الحرب بين الجيش اللبناني والمتطرفين عام 2007 الى تدمير جزء كبير من المخيم مما كشف عن موقع أثري بين الركام تبين أنه للمدينة الرومانيةأورتوزيا" التي اختفت بعدما اجتاحها الفيضان في القرن السادس الميلادي. العرض رحلة في التاريخ يستند الى الفيديو والتصوير الفوتوغرافي والتجهيز الفني.
الحفلات الموسيقية والراقصة تتواصل طيلة أيام المهرجان وتجمع بين التعبيرات المعاصرة والروح الشعبية، كما في حفلة بعنوان "طرب" من إعداد الفرنسي إيريك كاستين المقيم في مرسيليا، شاركت فيها مجموعة من الراقصين والراقصات من فلسطين ومصر ولبنان وتونس، وقدمت تجربة فنية ثرية أمام جمهور من مختلف الأعمار تفاعل معها في الهواء الطلق.
أما عرض "شمعدان" للثنائي المصري نورا سيف حسنين وسلمى عبد السلام فهو رحلة في فضاء رقصة الشمعدان وتطورها في مصر خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وتذكير بمعاني هذه الرقصة على مر الزمن، مع التركيز على الحركات البطيئة داخل المشهد العام للأداء الراقص.
مرة جديدة يؤكد "مهرجان دريم سيتي" تميزه وسعيه الى جماليات مغايرة مع مشاركة فعالة لفنانين من المغرب العربي ومشرقه ومن أوروبا. ما يجمع بينهم، التعبير عن أسئلة سياسية واجتماعية ملحة اليوم، في مقدمها قضايا المرأة والعدالة والمساوة والاستعمار في فلسطين. مهرجان متجذر في تونس العتيقة ومنفتح على العالم في آن. يعيد تقديم الأمكنة التراثية والفن المعاصر بروح مبتكرة من أجل بلورة تجارب ثرية وملهمة للجمهور.