زايد الإنسان... ذاكرة الاتّحاد في شهادة الشيخ حمد بن محمد الشرقي

احتفاءً بمرور واحدٍ وخمسين عاماً على تولي الشيخ حمد بن محمد الشرقي، عضو المجلس الأعلى حاكم الفجيرة، مقاليد الحكم في الإمارة، أصدر المكتب الإعلامي لحكومة الفجيرة كتاباً توثيقياً بعنوان "مع زايد... ذكريات يرويها حمد بن محمد الشرقي"، يضمّ بين دفّتيه مشاهد وذكريات عاشها إلى جوار القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في سردٍ إنسانيّ عميق يقدّم صورة القائد الذي تجاوز حدود الزمان والمكان ليغدو رمزاً للعطاء والحكمة والرحمة.
يستعيد الشيخ حمد في الكتاب تفاصيل الأيام الأولى لقيام الاتحاد، وما رافقها من تحديات جسام، مؤكداً أن الشيخ زايد كان يرى في الإنسان نواة المشروع الوطني، وأن التنمية تبدأ من بناء العقول لا من جمع الموارد.
وكان الشيخ زايد - كما يروي - يؤمن بأن الوطن لا يقوم إلا على المحبة والإخلاص، وبأن القائد لا يكون قائداً إن لم يكن قريباً من شعبه. وقد جسّد ذلك حينما كان يزور المناطق بنفسه، يجالس الناس في مجالسهم، يصغي إليهم بابتسامة، ويوجّههم بحكمة الأب لا بسلطة الحاكم.
الزراعة فلسفة حياة
من بين العناوين اللافتة في الكتاب تتكرّر مقولته الخالدة "أعطوني زراعة أضمن لكم حضارة". لم تكن عبارة عابرة بل رؤية حضارية متكاملة. فقد آمن الشيخ زايد بأن الأرض شريكة الإنسان في وجوده، وبأن من يزرع الخير في التراب يحصد الاستقرار في الروح.
يروي الشيخ حمد أن الشيخ زايد أشرف بنفسه على مشاريع الزراعة والسدود، وشجّع على استخدام التقنيات الحديثة لترشيد المياه، مؤمناً بأن الخُضرة مرآة الحضارة، وأن ازدهار الطبيعة هو مقياس رقيّ الأمم.
المرأة شريك البناء
وفي فصلٍ مؤثر، يتناول الكتاب اهتمام الشيخ زايد بدور المرأة في المجتمع، وكيف فتح أمامها أبواب التعليم والعمل والمشاركة الوطنية.
ويذكر الشيخ حمد موقفاً إنسانياً حينما التقى الشيخ زايد إحدى النساء اللواتي طلبن المساعدة، فاستمع إليها باحترامٍ وأبوة وقال لها: "لكِ حقٌّ علينا، لأنكِ أمّ، والأم مدرسة الأجيال". بهذا الإيمان العميق بقدرتها، أصبحت المرأة الإماراتية شريكاً فاعلاً في النهضة، لا تابعاً، بل صوتاً حاضراً في ميادين التنمية والعطاء.
وفي حديثه عن التعليم، يروي الشيخ حمد كيف زار الشيخ زايد إحدى المدارس في العين عام 1973، فوقف بين الطلاب قائلاً: "أنتم جيل الاتحاد، ودوركم يأتي بعدنا. تعلموا، لأن بالعلم تُبنى الأمم".
لقد أدرك الشيخ زايد أن التعليم هو طريق الاستقرار والكرامة، فأنشأ المدارس في المدن والقرى، واهتم بالمعلمين، واعتبر كل طالب مشروعاً للوطن، وكل قلمٍ نبتةً في أرض الاتحاد.
زايد والعروبة... والأب الذي احتوى الجميع
ويخصّص الكتاب مساحة وافية لمواقف الشيخ زايد في القضايا العربية الكبرى، حيث برزت حكمته خلال حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973. فقد تابع سير المعارك يوماً بيوم، وأعلن في مؤتمرٍ صحافي كلمته التاريخية: "سنقف مع الأشقاء في مصر وسوريا، فليس هناك أغلى من الدم العربي". كانت تلك الكلمات عنواناً لوحدة الموقف العربي، وتجسيداً لقناعته بأن القوة في التضامن، والعروبة مسؤولية لا شعار. ولم يقتصر دعمه على الموقف السياسي، بل قدّم المساعدات السخية، وفتح أبواب الإمارات لكل محتاجٍ من أبناء الأمة.
يتوقف الكتاب أيضاً عند الجانب الإنساني العميق في شخصية الشيخ زايد، إذ كان يرى في كل فردٍ من أبناء شعبه ابناً له، وفي كل بيت بيتاً من بيوته. كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، ويحرص على تلبية حاجات المحتاجين بنفسه، في تواضعٍ يليق بالأنبياء وحكمةٍ تليق بالعظماء.
ويقول الشيخ حمد في أحد المواضع: "كان الوالد زايد، رحمه الله، يحمل في قلبه رحمةً تتسع للجميع، ويعامل الناس بصفاءٍ يشبه صفاء الصحراء التي أحبها".
وثيقة وطنية للأجيال
يضمّ كتاب "مع زايد" اثنين وعشرين باباً تحمل عناوين تختزل فلسفة الشيخ زايد في بناء الإنسان والوطن، من بينها: "التعليم يعني بناء الإنسان"، و"لا خير في المال إذا لم يُسخّر لخدمة الشعب".
ولا يكتفي الكتاب بسرد الذكريات، بل يقدّمها كوثيقة وطنية تعيد صوغ لحظات التأسيس الأولى بروحٍ مفعمة بالحب والوفاء. فكل سطرٍ فيه يحمل عبق التاريخ، وكل مشهدٍ يرسم ملامح قائدٍ رأى المستقبل قبل أن يأتي، وعمل بصمتٍ وإيمانٍ ليجعل من الاتحاد حكاية خالدة في ذاكرة الإنسانية.
في ختام هذا العمل التوثيقي، يقدّم كتاب "مع زايد... ذكريات يرويها حمد بن محمد الشرقي" أكثر من سردٍ لذكريات القائد المؤسس، فهو شهادة وفاء لجيلٍ صنع الحلم، ومرآة لقيمٍ لا تزول بمرور الزمن. ومن بين صفحاته يتجدد حضور الشيخ زايد صوتاً للإنسانية وضميراً للأمة، يذكّر الأجيال بأن بناء الأوطان يبدأ من الإيمان بالإنسان، وبأن الاتحاد الذي زرعه زايد في القلوب ما زال يثمر حضارةً تمتد جذورها في الأرض، وتعلو أغصانها نحو المستقبل.