من رأي فنّي لسلوم حدّاد إلى قضيّة هويّة: جدل الفصحى يشعل السوشيال ميديا

أثار تصريح الفنان السوري سلوم حداد حول ضعف إجادة بعض الممثلين المصريين اللغة العربية الفصحى عاصفة من الجدل، بعدما انتشر مقطع حديثه في مواقع التواصل الاجتماعي، ليتحوّل من رأي فني شخصي إلى قضية عامة شغلت الوسط الثقافي والجمهور معاً. فما بين أصوات رأت في كلامه نقداً موضوعياً يلامس واقع تراجع الاهتمام بالفصحى، وأخرى اعتبرته إساءة غير مبررة للتاريخ الفني المصري، وجد النقاش طريقه سريعاً إلى دائرة أوسع تمسّ صورة الدراما العربية والعلاقات الفنية بين مصر وسوريا.
ومع تصاعد ردود الفعل بين التأييد والرفض، بدا واضحاً أن "السوشيال ميديا" أدّت دوراً محورياً في تضخيم الحدث، إذ دفعت به إلى واجهة الرأي العام، لتُطرح من جديد أسئلة قديمة حول مكانة الفصحى في الدراما، وهل لا تزال عنصراً من عناصر الجودة والإقناع الفني، أم باتت مجرد حضور رمزي يتراجع لمصلحة العاميات واللهجات المحلية؟
"النهار" رصدت انعكاسات تصريح حداد على النقاشات في الفضاء الرقمي لتقف عند دور المنصات في تحويله إلى قضية عربية عامة، ثم تطرح السؤال الأهم: هل يمكن أن يشكّل هذا الجدل فرصة لإعادة الاعتبار إلى اللغة الفصحى في الدراما العربية، بدل أن يبقى مجرد سجال عابر على المنصات؟
فرصة للنقاش الثقافي
يؤكد الناقد السوري بديع صنيج أن تصريح حداد لم يمر مرور الكرام، بل أشعل سجالاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تجاوز النقاش البعد اللغوي ليصل إلى مسائل الهوية والاعتزاز بالتاريخ الفني المصري.
ويشير صنيج إلى أن كثيرين اعتبروا حداد متجاوزاً في نقده، خصوصاً مع نبرة السخرية، إذ رأوا أن كلامه يقلل من قيمة رموز مصريين عُرفوا بإتقانهم الفصحى. لذلك جاء الرد قوياً من فنانين مصريين شددوا على أن الأداء الفصيح لا يزال حاضراً في المسرح والدوبلاج والأعمال التاريخية.
ويضيف أن هناك أيضاً أصواتاً دعت إلى الهدوء، مثل الفنانة هالة صدقي التي رأت أن الجيل الجديد فعلًا لا يشاهد كثيراً من الأعمال بالفصحى، ما يجعلها “نادرة” نسبياً، وهو ما يعطي شيئاً من المصداقية لرأي حداد. ويرى بعض النقاد أن التصريح يعكس ظاهرة موجودة فعلاً: تراجع تدريجي في التدريب على الأداء الفصيح في بعض الأعمال الحديثة.
الفصحى كمعيار فنّي وثقافي
يرى صنيج أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت العامل الأبرز في تضخيم المسألة؛ فحداد تحدث عن "قلة من الممثلين"، لكن الانتشار الإعلامي صوّر الأمر كأنه حكم عام على كل الفنانين المصريين. هذا التعميم غذّى ردوداً عاطفية اعتبرته مساساً بالكرامة الفنية لمصر.
ويعتبر أن الجدل تجاوز حدود الرأي الفني ليصبح قضية عامة تمسّ صورة الدراما العربية والعلاقات الفنية بين مصر وسوريا، وخاصة مع المكانة التاريخية لمصر في المسرح والسينما والدراما. ويشير صنيج إلى أن حساسية اللحظة، وعمق التعاون الفني بين البلدين، جعلا من التصريح مادة قابلة للاشتعال، قبل أن يهدّئ من حدّتها اعتذار سلوم حداد لاحقاً.
يذهب صنيج إلى أن قيمة الجدل تكمن في ما أثاره من أسئلة حول اللغة الفصحى في الدراما العربية، إذ يمكن اعتباره فرصة لإعادة طرحها كعنصر أساسي من عناصر الجودة والإقناع الفني.
ويقول إن الجدل يفتح المجال أمام مراجعة مناهج المعاهد والأكاديميات الفنية لإعادة التركيز على تعليم الفصحى، وضبط الأداء الصوتي، والإلقاء السليم. ويدعو إلى التفكير في كيفية استخدام الفصحى في الدراما بشكل طبيعي يخدم الشخصيات والأزمنة من دون افتعال.
ويضيف أن العودة إلى أعمال ماضية نجحت في تقديم الفصحى بتميز قد تكون مصدر إلهام للأجيال الحالية، لكن التحدي يكمن في ألا يُترك الموضوع ليموت مع انتهاء “الترند”، بل أن يتحول إلى توجه مؤسسي مستدام.
ويعدد صنيج أبرز التحديات: الموازنة بين الفصحى والواقعية الحوارية حتى لا يشعر المشاهد بالجمود، وصعوبة تدريب الممثلين بما يتطلبه من وقت وجهد، إضافة إلى احتمال تجاهل القضية بعد انقضاء الجدل.
ويخلص صنيج إلى أن تصريح سلوم حداد لم يكن مجرد رأي عابر، بل نقطة أثارت نقاشاً واسعاً في اللغة والهوية في الدراما العربية. والفرصة الآن – كما يرى – هي استثمار هذا الجدل لإعادة الاعتبار للفصحى كمعيار فني وثقافي، بدل أن يظل مجرد سجال على المنصات الرقمية.
استثمار شرارة الخلاف لتغذية الانقسام
ويؤكّد الكاتب والناقد المصري وائل سعيد لـ"النهار" أن تصريح سلوم حداد أصاب عصباً حساساً، لأنه لامس واقعاً يتجاهله كثيرون: هناك بالفعل تراجع ملحوظ في العناية باللغة داخل الدراما المصرية، وغيرها، حتى في الأعمال التاريخية التي تستوجب دقة الأداء.
ويتابع سعيد: "ولهذا، بدا جزء من ردود الفعل المؤيدة منطقياً وجديراً بالالتفات إليه، في المقابل، دفعت الحساسية الوطنية بعض الأصوات إلى رفض التصريح باعتباره انتقاصاً من قيمة الممثل المصري، بينما الحقيقة أن النقد اللغوي لا ينتقص من الريادة الفنية ولا من التاريخ المعروف للدراما المصرية".
وكما هي العادة، لا شك في أن "السوشيال ميديا" ضاعفت الجدل وحوّلته من رأي فني إلى قضية عامة، مستثمرة أي شرارة خلاف لتغذية الانقسام. ومع ذلك، لولا هذه المنصات لما أخذ النقاش هذا الحجم، وربما ظل محصوراً في الوسط الفني.
ويختم سعيد كلامه، بأن الأهم أن يتحوّل الجدل إلى فرصة لإعادة التفكير في اللغة الفصحى بوصفها ركناً من أركان الجودة، لا مجرد ديكور لفظي. الدراما العربية بحاجة إلى موازنة بين الطابع المحلي واللهجات، من جهة، وبين الحفاظ على رصانة الفصحى، من جهة أخرى، خصوصاً في الأعمال التراثية والتاريخية. بذلك يمكن أن يتحول تصريح مثير للجدل إلى لحظة مراجعة حقيقية بدل أن يبقى مجرد سجال عابر.
ومهما تباينت ردود الفعل على تصريح حداد بين مؤيد ومعارض، فإن الجدل الذي أثاره كشف عن حاجة ملحّة لإعادة التفكير في مكانة الفصحى داخل الدراما العربية. فالمسألة لا تتعلق بمجرد جدال عابر في المنصات الرقمية، بل بهوية فنية وثقافية ممتدة، وبقدرة الدراما على الجمع بين الأصالة والواقعية.
وإن كان السجال انطلق من تصريح فردي، فقد أتاح في الوقت نفسه فرصة لمراجعة جدية، يمكن أن تتحوّل إلى دعوة لتجديد المناهج التدريبية، والارتقاء بمستوى الأداء اللغوي، وإعادة الاعتبار للفصحى كركن من أركان الجودة والإقناع الفني. وهنا، تكمن قيمة الأزمة في تحويل الخلاف إلى مساحة للنقاش البنّاء، بدل الاكتفاء بضجيج اللحظة.