سوكوروف لـ"النهار": الله أعطى الروس فرصة فأضاعوها

عاد المخرج الروسي الكبير ألكسندر سوكوروف إلى مهرجان البندقية هذا العام، بعد غياب 10 سنوات عنه، ليقدّم فيلمه الأحدث، "يوميات مخرج"، وهو وثائقي يمتدّ لأكثر من خمس ساعات، يعتمد على الأرشيف والمونتاج السريع، ويستعرض تاريخ الاتحاد السوفياتي من 1957 إلى لحظة انهياره في 1991. يتناول المعلّم هذا الماضي المثقل بالأحداث والمشغول بتغيير العالم، من منظور شخصي، مركّزاً على اللحظات الأكثر حضوراً في وجدانه. مشاركته جاءت رغم عزلة السينما الروسية بسبب العدوان على أوكرانيا، ممّا جعل حضوره استثناءً ثقافياً، خصوصاً في ظلّ الرقابة التي يواجهها في بلاده. "النهار" التقت هذا السينمائي صاحب الروائع، وكان معه الحوار الآتي.
”حاولنا تحقيق المجتمع المثالي وفشلنا"
"هذا أول فيلم أشارك شخصياً في "أحداثه". قبله، كنت أنجز أفلاماً أقف فيها جانباً، مخترعاً شيئاً ما، في حين أني هنا أحضر داخل الحدث مباشرةً. الكثير ممّا ترونه على الشاشة كنتُ شاهداً عليه بنفسي. أما الأشخاص الذين ظهروا، فهم أبناء وطني، بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. قد أختلف مع بعضهم في أمور معينة، لكن لسببٍ ما، أحبّهم جميعاً. أشعر أنني أفهمهم بعمق. هذه هي مصائر هذا الجزء من العالم السلافي. وهنا من المهم أن نأخذ في الاعتبار نقطة مهمّة: إني أظهر كيف انهار النظام الاشتراكي تدريجاً. ومع أن تلك المرحلة من تاريخ الشعب الروسي لم تكن في منتهى النجاح، فإنني رغم ذلك أتحسّر على ضياع تلك الفرصة. لا تشبه خسارتنا خسارة سياسية عادية. الله، بمعنى ما، أعطى الروس فرصة. قال لهم: "هاكم فرصة، جرّبوا أن تصنعوا منها شيئاً". حَلِم البشر، على مدى قرون، بمجتمع يكون فيه الجميع متساوين، يتمتع فيه كلّ فرد بفرص متكافئة، وها قد وُضع كلّ شيء بين أيديهم وقيل لهم: جرّبوا. لكننا فشلنا. كان ذلك الحلم واضحاً في كتابات الاشتراكيين الطوباويين الفرنسيين، عند سان سيمون، وفورييه وغيرهما. لقد حلمت به تلك العقول العظيمة جميعها. لم يحدث أن حاولت قومية أخرى في التاريخ تجسيد هذا الحلم فعلياً. لا توجد واحدة قط. ولسبب ما، وضعه الله بين أيدي الشعب الروسي. في البداية، كلّ شيء كان على ما يُرام. لكن سرعان ما تبيّن أن المسألة أصعب ممّا اعتقدناها. يوماً بعد يوم، صارت الأمور تزداد تعقيداً. أوروبا الواقعة خارج نفوذ روسيا السوفياتية، كان لها موقف شديد العداء تجاهنا، ولذلك فإن تحقيق فكرة المجتمع المثالي داخل روسيا صار أصعب فأصعب مع مرور الزمن. تخيّلوا فقط لو أن أوروبا ساعدتنا، كم كان المشهد ليكون مختلفاً اليوم".
”التاريخ في روسيا يمرّ عبر الرعب"
"في عام 1953، توفّي ستالين. تطلّبت روسيا السوفياتية سنوات عدة كي تستعيد توازنها وتعود إلى رشدها السياسي. كانت فترة قاسية على الجميع. وبحلول عام 1957، ارتاح الناس بعض الشيء، عادوا يتنفّسون بحرية، ولو قليلاً. حدث هذا لأن كارثة الحرب العالمية الثانية كانت قد أصبحت خلفهم. تلك الحرب كانت كارثية على الاتحاد السوفياتي والشعب الروسي. وربما لم يكن لها ما يماثلها إلا عند الألمان. لديّ كتاب، نُشر في طبعة محدودة جداً، ألّفه قضاة عسكريون روس. بعضهم محقّقون واختصاصيون في مجال القانون، وقد شرعوا بدراسة الوضع بعد أن طُرد الألمان من تلك الأراضي. راحوا يتفحّصون ما جرى في المناطق المحررة. خذوا مثلاً منطقة بسكوف في شمال غرب روسيا. مساحتها تقريباً بحجم إسبانيا. حين تنقّل هؤلاء القضاة في أرجاء هذه المنطقة، لم يجدوا فيها إنساناً حيّاً واحداً. لم يجدوا مدينة واحدة سليمة، ولا قرية واحدة لم تتحوّل إلى رماد. السكّان المحليون أُبيدوا بالكامل الى درجة ان الوديان أصبحت مكدّسة بالجثث بعمق ثلاثة أو أربعة أو خمسة أمتار. بعبارة أخرى، سكّان جزء كبير من هذه الأرض جرى إفناؤهم جسدياً على أيدي الجنود الألمان والإسبان والهنغاريين المتمركزين هناك. اعتدنا الحديث عن إبادة اليهود - نعم كان ذلك شيئاً مروّعاً - ، لكن إبادة الروس صرفوا النظر عنها، مراعاةً لمأساة اليهود. في روسيا، في الاتحاد السوفياتي، هذه أشياء نادراً ما ذُكرت. لكنها كانت مأساة هائلة. لقد ذبحوا الجميع. وكان هناك أيضاً جنود سلوفاك، مع الأسف، إلى جانب الهنغاريين والألمان. الجميع شارك. لهذا السبب، لا زال إدراك التاريخ في روسيا يمرّ عبر منظار ذلك الرعب الكارثي. وبالطبع، لم تتعافَ روسيا منه بعد. هذا يحتاج إلى ثلاثة أجيال حتى يتمكّن المرء من استعادة توازنه".
”الشاشة تشدّ الإنسان نحوها وتبتلعه في داخلها"
"فيلمي هذا هو نوعاً ما امتداد لـ"الفلق الروسي". أقله من حيث انه صيغ لأهداف فنية. وهنا أيضاً، لا يتعلّق الأمر بصحافة أو ببحث، بل بإدراك فنّي لجريان الزمن. بالطبع، هناك عملية انتقاء. أمرّ على نحو ثلاثة عقود، ولكني أجريتُ تحليلاً لكلّ سنة من حيث تماسكها والأهمية الدرامية لأحداثها قبل ان أعتمدها. أما السنوات التي خلت من أحداث ذات بُعد درامي فقد جرى تجاوزها. هناك سنة لم يكن فيها ما يهمّني، تخليتُ عنها ببساطة. فيلمي ليس بحثاً علمياً. إنه إدراك فردي، مستقل، شخصي تماماً لمعنى الزمن. اخترتُ الوقائع بحسب اهتماماتي أنا بها. النسخة الأولى بلغت خمساً وسبعين ساعة. ثم جاءت نسخة ثانية بخمس وعشرين ساعة. في فيلم من هذا العيار، لم تكن حتى سبع ساعات شيئاً مبالغاً فيه. كان الغرض منه أن يُعرَض على شاشة التلفزيون. أخذتُ هذا الاحتمال في الاعتبار. لكن هذا النوع من الأفلام، يجب أن يُشاهَد على شاشة كبيرة. الجهد الفنّي المبذول سواء في الصوت أو التكوين البصري أو الكادرات، يحدث أثراً داخل الصالة. حجم الشاشة له دلالة درامية وفيزيولوجية في آن واحد. كلما كبرت الشاشة، أصبح عامل الجذب أقوى وإحساس المتفرج بالانغماس أعمق. فالشاشة تشدّ الإنسان نحوها وتبتلعه في داخلها“.
”كلّ مؤلّف يعرّف نفسه بنفسه"
"في رأيي، لا وجود لمدرسة مونتاج روسية، أو أميركية، أو فرنسية. هذا مجرد وهم. ما هو موجود فعلاً هو مدارس الفنّانين الأفراد. خذوا الرسّام إل غريكو مثلاً. هل ينتمي إلى الفنّ اليوناني أم إلى الفنّ الإسباني؟ هل مدرسته يونانية أم إسبانية؟ إنها مدرسة إل غريكو نفسه. عندما نتحدّث عن المونتاج، نتعلّم من ذواتنا، من بسيكولوجيتنا، من معرفتنا بتجارب العالم. بالطبع، هناك في المونتاج بروتوكولات، معايير محدّدة، ما ينبغي فعله وما لا ينبغي. لكن بالنسبة لي، لا وجود لقواعد. أفعل ما أشاء. لأن كلّ فيلم هو موضوع جديد، مادة جديدة، وهذا يتطلّب قدراً كافياً من الحرية والاستقلالية. ما كان مميزاً ومثيراً لدى سرغي أيزنشتاين أو ديفيد ورك غريفيث في لحظتهما التاريخية الخاصة، لا يهم إنسان اليوم. فإذا كانت العجلات في زمن ما خشبية، ثم صارت معدنية، وتعلّم الناس كيف يتعاملون معها وفقاً لذلك، فهذا لا يعني أننا اليوم ما زلنا مضطرين لاستخدام العجلات الخشبية. كلّ مؤلف يعرّف نفسه بنفسه، إذا كان بالفعل مؤلفاً. لا تصدّقوا وجود مدرسة أميركية أو إنكليزية. فإذا ما صادفتم فجأةً مثل هذه التسميات، فعليكم أن تدركوا أن أي حديث عن القيمة الفنية قد انتهى عند تلك اللحظة".
”أرغب بصلة مباشرة مع أبناء وطني"
"في ما يتعلّق بالرقابة، لا أعرف حتى كيف أحكي عن هذا الموضوع. إنها سيئة فعلاً. لا ينبغي لها أن تنوجد أصلاً. ففي دستور روسيا الاتحادية، الرقابة ممنوعة. هذا الفيلم صُوِّر بتمويل خاص. ولو كان قد أُنجز بتمويل من الدولة، لما كان ليُعرض في روسيا. وهذا أمر صعب جداً بالنسبة لي، لأنني أرغب بشدّة في أن تكون لي صلة مباشرة وحوار مع أبناء وطني".