"جائزة خالد خليفة للرواية": وفاء للذاكرة واستعادة لمساحات الحرية

في لحظة تتقاطع فيها الذاكرة مع الحاضر، يُطلّ اسم خالد خليفة من جديد ليعلن أن الأدب لا ينطفئ برحيل أصحابه. فها هي دمشق، المدينة التي شكّلت خلفية الكثير من رواياته، تحتضن الدورة الأولى من "جائزة خالد خليفة للرواية" في المكتبة الوطنية.
الجائزة، التي أطلقها أصدقاء الراحل الكبير، هي فعل وفاء يعيد صوته إلى الأجيال القادمة؛ الصوت الذي لم يساوم يومًا على الحرية والكرامة والصدق. ومن خلال هذه المبادرة، يتحوّل الغياب إلى حضور مضاعف، حيث يصبح الأدب وسيلة لتجديد العهد مع خالد خليفة الكاتب والإنسان، ومع مشروعه الروائي الذي جعل من الكلمة مقاومة ومن الحكاية ذاكرة مشتركة.
إن تسليم الجائزة الأولى يحمل بعدًا رمزيًا عميقًا، إذ يترجم الإصرار على أن تبقى مسيرة هذا الروائي السوري علامة فارقة في الأدب العربي، وأن يستمر حضوره بيننا، لا في كتبه وحدها، بل في كل مبدع جديد تمنحه الجائزة فرصة الانطلاق.
"النهار" تواصلت مع أصدقاء الروائي السوري الراحل خالد خليفة، الذين اجتمعوا على محبته وأسسوا فكرة "جائزة خالد خليفة للرواية" وفاءً لاسمه وإرثه.
ذاكرة صداقة تتحول إلى فعل ثقافي
يقول الشاعر والصحفي المصري سيد محمود، عضو مجلس الأمناء: "نحن أصدقاء خالد خليفة، اجتمعنا على محبة غامرة كان الراحل يغدقها على من حوله. ومع رحيله، شعرنا بمسؤولية كبيرة تجاه إرثه، خاصة وأنه كان حاملاً لقيم راسخة في الحرية والجمال والعيش الكريم".
كان خالد، كما يصفه أصدقاؤه، محباً للحياة، كارهاً للوحدة، يجد في الصداقة سنداً وحيداً وسط عالم مضطرب. ومع غيابه، لم يرد هؤلاء أن يتركوا إرثه الأدبي والإنساني عُرضة للنسيان، فقرروا تأسيس جائزة تحمل اسمه، وفاءً لقيمه وإصراره على أن الأدب "رسالة حرية وملاذ للروح".
المسار الأدبي لخالد خليفة يكشف عن كاتب عاشق للحرية ومشغول بتفكيك آليات الاستبداد. في بداياته، عبر أعمال مثل "دفاتر القرباط" و"حارس الخديعة"، لم يكن الاشتباك السياسي واضحاً، لكنه بلغ ذروته مع صدور رواية "مديح الكراهية"، التي كرّست اسمه عربياً ودولياً. فيها، قدّم خليفة تحليلاً سردياً لتاريخ العنف في سوريا، وكيف زرع النظام بذور الكراهية ورعاها. لم يكن ذلك تعاطفاً مع طرف سياسي ضد آخر، بل محاولة لفهم آليات القمع وكيف تحولت إلى ثقافة.
لاحقاً، انشغل خليفة أكثر بمعاناة السوريين اليومية في زمن الحرب. ففي "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، قدّم صورة مأسوية للخراب الإنساني، بينما تناول في "الموت عمل شاق" مأساة دفن الموتى وسط الحرب، وجاءت "لم يصلّ عليهم أحد" بملحمتها التي تؤرخ لحلب وتحولات سوريا منذ العثمانيين وصولاً إلى صعود العسكر. في كل هذه الأعمال ظل الكاتب مشدوداً إلى قيمة الحرية، داعياً إلى المساواة والكرامة والعيش الكريم.
تكريم للأدب السوري الشاب
من هذا الإرث الفكري انطلقت الجائزة. يقول سيد محمود لـ"النهار": "هي تكريم للأدب السوري الشاب الذي شجّعه خالد وفتح أمامه المجال، من دون أن يفرض صورة الكاتب العظيم على نفسه. هي أيضاً نوع من الامتنان وردّ الجميل لصداقة خالد ولللحظات التي منحها لأصدقائه".
في دورتها الأولى، منحت الجائزة كاتبة شابة فرصة نشر عملها الأول مع دار نشر كبرى، إضافة إلى مكافأة رمزية تعكس البعد المعنوي أكثر من المادي. وبحسب القائمين عليها، تبقى الجائزة مستقلة تماماً، ممولة من أصدقاء الراحل دون أي رعاية رسمية أو دعم خارجي. وقد نُظمت الدورة ضمن موعدها المحدد، من خلال لجان تحكيم ومجلس أمناء يضاهي كبريات الجوائز العربية من حيث المهنية والاحترام.
يتطلع القائمون على الجائزة إلى توسيع حضورها عربياً في الدورات القادمة، رغم ما يتطلبه ذلك من موارد وجهود. ويقول سيد محمود: "نؤمن أن الوفاء لخالد ورسالة الحرية التي حملها يستحقان هذا السعي".
الجائزة إذن ليست مجرد تقليد أدبي جديد، بل فعل ثقافي مقاوم للنسيان، واستعادة لمساحات عامة افتقدها السوريون لسنوات طويلة. هي مبادرة تعيد للأدب السوري حضوره في المشهد العربي، وتكرّس ذكرى خالد خليفة ككاتب لم يساوم، ظل حتى لحظة رحيله صوتاً للحرية ووجهاً للكرامة.
عودة الحياة إلى فضاءات افتقدها السوريون
تشكل إقامة "جائزة خالد خليفة للرواية" في دمشق خطوة تحمل أبعاداً رمزية وثقافية عميقة، إذ تعني بالنسبة للكثيرين استعادة السوريين لمساحات عامة ومؤسسات ثقافية غابت طويلاً تحت وطأة الحرب والانغلاق. اختيار المكتبة الوطنية لانطلاقة الجائزة لم يكن محض صدفة، بل إشارة واضحة إلى الرغبة في إعادة وصل الأدب بالحياة العامة والذاكرة الجمعية.
بحسب الأستاذ بولص حلاق، أحد أصدقاء الراحل والمشرفين على الجائزة، حرص القائمون عليها على أن تبقى مستقلة في التمويل والنشر، يتولاها أصدقاء خالد خليفة فقط، بعيداً عن أي رعاية رسمية أو تبعية لمؤسسة سياسية أو ثقافية قد تصادر روحها. هذه الاستقلالية تمنح الجائزة صدقيّتها، وتعيدها إلى جوهرها: تكريم الأدب الحرّ والموهبة الشابة.
ويؤكد حلاق أن الجائزة، في دورتها الأولى، تتوجه بالأساس إلى الكتاب الشباب داخل سوريا، أولئك الذين طال تهميشهم خلال عقود مضت، وكانوا يمثلون جوهر مشروع خالد الأدبي عبر ورشات الكتابة التي أطلقها في حياته. هنا تتحول الجائزة إلى امتداد طبيعي لمشروعه، إذ تستعيد ما بدأه من دعم الأصوات الجديدة، وتمنحها فضاءً للتعبير والانطلاق.
وداع يتجاوز الحزن إلى الاحتفاء
يرى المشرفون أنّ انطلاقة الجائزة من دمشق ليست مجرد حدث ثقافي، بل وداع مختلف لخالد خليفة؛ وداع يتجاوز الحزن إلى الاحتفاء بذكراه وإبداعه. وبهذا، يبقى خالد حيّاً، ليس فقط في رواياته التي وثّقت التحولات العاصفة في سوريا، بل أيضاً في أصوات الشباب الذين ستفتح لهم الجائزة الأفق.
ويرى حلاق أنّه، "إلى جانب تكريم ذكرى الراحل، تمثل الجائزة محاولة للمساهمة في استعادة حضور الرواية السورية عربياً، بعد أن تراجعت مكانتها خلال سنوات الحرب. ورغم نجاح بعض الأسماء في تجاوز الحدود المحلية، فإن المشهد الأدبي السوري بحاجة إلى مبادرات مشابهة تُعيد تسليط الضوء على التجارب الجديدة"، آملاً أن يتسع نطاق هذه المبادرة لاحقاً لتشمل جوائز أخرى، تكرّم كتّاباً برزوا خلال سنوات الثورة، وتفتح المجال أمام جيل جديد من الأصوات الأدبية السورية.
إن إطلاق "جائزة خالد خليفة للرواية" في دمشق ليس مجرد تكريم لاسم كبير، بل هو إعلان صريح عن عودة الأدب ليأخذ مكانه الطبيعي في الحياة العامة السورية، وفتح نافذة أمل للأصوات الشابة الباحثة عن فضاء للتعبير. وبينما يتقاطع الحنين مع الوفاء، تظل ذكرى خالد خليفة حيّة، تتحول من فقد شخصي إلى فعل جماعي يعيد للأدب حضوره ولمعناه دوره. إنها ليست جائزة فقط، بل وعدٌ متجدد بأن الحرية التي كتب لها خالد خليفة ستظل متقدة، وأن الكلمة ستبقى أقوى من الغياب.