كلوديا كاريدينالي من "المعلمة التونسية" إلى النجمة الأوروبية

بيني وبينها أجيال وعقود من الزّمن، ولكنّي حين ولدت كنت أعلم بالفطرة عنها الكثير، ثم كبرت على قصصها التي يتناقلها آباؤنا وأجدادنا.
لقد علقت في الأذهان تلك القصص البسيطة التي كان يرويها الأهالي عنها. كان الكلّ يتكلّم عنها وكأنّه يعرفها جيّداً أو أنه التقاها. وفي الواقع، كلّ القصص تنسجها خيالات تغذّت بمحبّة كبيرة للمرأة قبل أن تكون النّجمة الهوليووديّة.
وإلى حين كبري كنت أعتقد أنّها تونسيّة باسم غربي مستعار لكثرة ما كانت تبدو لي في قصصهم جزءاً من مجتمعنا وفرداً منّا. تحفظ عاداتنا وتقاليدنا وتعرف أكلاتنا وتتقن كلامنا...أو هذا ما روي لي.
الثّلاثاء 23 أيلول/سبتمبر 2025، اهتزّت مواقع التّواصل الاجتماعي لوفاتها، وبدأ الجميع في تشارك بعض الذّكريات معها، وتقريباً يتّفق الأغلب منا على أنّها امرأة استثنائيّة. لقد انتفضت حواسّنا أسفاً على رحيلها، الذي ورد علينا خبراً مفاجئاً من فرنسا، مثيراً لمشاعر مختلطة لدينا تربطنا بحقبة زمنيّة بعينها، زمن تلفزيون الأبيض والأسود والجلسات العائليّة الدّافئة: هي جزء من ذاكرتنا، ومن طفولتي تحديداً، بل هي جزء من صورة الجدّ والأب اللّذين لطالما أوهمانا في قصصهما أنّهما التقياها ويعرفانها جيّداً، وكنّا نتبادل معهما الأدوار ونوهمهما عن طيب خاطر أيضاً بأنّنا صدّقنا ذلك تقاسماً لابتسامات عفويّة ترتسم على الملامح حين يسترجعاها في ليالي الشّتاء الدّافئة، التي ينقطع فيها التّيار الكهربائي فتضيء داخل كلّ منّا جزءاً من مخزون ذاكرته.
ولدت كلوديا كاريدينالي في تونس العاصمة، وتحديداً حلق الوادي، ذات 15 نيسان/أبريل 1938، وغادرتنا ذات 23 أيلول/سبتمبر 2025. وبين الزمنين 87 سنة في عمرها، و87 ألف قصّة في مخيّلتنا، جزء منها ترسمها الخيالات، وجزء آخر ترسمه الوقائع، التي تؤكّد العلاقة الوجدانيّة بين المواطن التّونسي والممثّلة الفرنسيّة الإيطاليّة.
لعلّ الجمهور العريض يراها النّجمة الهوليووديّة، ولكنّها ليست كذلك للجمهور التّونسي، بل هي أكثر من هذا التّوصيف؛ وليست فقط صاحبة لقب أجمل الإيطاليّات الذي حصلت عليه في السّادسة عشرة وإنّما هي الإنسانة الجميلة والرّقيقة والهادئة في تعاملها مع التّونسيين. تكنّ لهم محبّة، وصلتنا نحن اليوم من خلال حكاياتهم عنها، ومن خلال الفرح الذي يتطاير في كلّ تفاصيل السّرديات وفي اللّقاءات العفويّة، وحتّى من خلال الشّاشات الكبيرة.
كانت كلوديا كاريدينالي تستقبل التّونسيين وكأنّها تستقبل أبناء جلدتها، من دون أيّ تحفّظ، وبكلّ مرونة وهدوء كهدوء جمالها وأناقتها البسيطة التي تنمّ عن ذوق عال. لنقل إنّها لا تمارس الفنّ فقط أمام الكاميرا وإنّما فنّانة ملتزمة في تفاصيل حياتها اليوميّة وفي علاقاتها الاجتماعيّة. زاولت تعليمها في المدرسة التّونسية إلى حدود بلوغها سن الثّامنة عشرة. ورغم انتقالها للعيش في خارجها ظلّت تربطها نوستالجيا بتونس حتّى ألّفت كتاباً عنها بعنوان: " تونس بلادي". وقد صرّحت في أحد اللّقاءات متحدّثة عن كتابها: "أروي في كتابي (Ma Tunisie) مرحلة كلوديا الفتاة التونسية، التي رغبت في أن تصبح معلّمة في تونس، ولم تصبح نجمة سينمائية إلّا عن طريق الصدفة". ولا ننسى أنّها ذكرت في كتابها عن زياراتها لكلّ دول العالم، ويروق لها ذلك، إلّا أنّها ظلّت تربطها علاقة مميّزة بتونس، ولا ترتاح إلاّ على شواطئها على حدّ تعبيرها.
وهذه المحبّة متبادلة إلى درجة أنّه في آخر زياراتها إلى تونس سنة 2022، كانت المكرّمة ليس فقط في حفاوة الاستقبال وإنما في مبادرة بلديّة حلق الوادي (مسقط رأسها) إلى إطلاق اسم كلوديا كاريدينالي على أحد الأنهج تخليداً لمسيرتها ولجذورها التّونسيّة. ونستحضر أيضاً أنّه في سنة 2018 كرّمتها المكتبة السّينمائيّة التّونسيّة، وعرضت أبرز أفلامها الخالدة بحضورها.
وجدير بالذكر أنّ من آخر أفلامها "L'ile du pardon" إخراج رضا الباهي (2022)، كما شاركت في الفيلم التونسي "Un été à La Goulette" عام 1996 للمخرج فريد بوغدير.
وداعاً كلوديا كاريدينالي... وداعاً سفيرة تونس في العالم بوفائها ومحبّتها وأصالتها... وداعاً محبّة بلادي.