كلوديا كاردينالي امرأة بألف حياة وحياة
لم تسعَ كلوديا كاردينالي، الراحلة عن 87 عاماً، لأن تكون "رمزاً جنسياً"، رغم أن صورتها التصقت بذاكرة جيل آبائنا وأمّهاتنا بوصفها إحدى أيقونات الجمال على الشاشة. في الستينات، ذلك الزمن الذي لمع فيه نجم بريجيت باردو وجاين فوندا، رآها كبار المخرجين أبعد من كونها جسداً مثيراً ووجهاً فاتناً.
في عينيها، اكتشف بيار باولو بازوليني "جمالاً متوحّشاً". شبّهها لوكينو فيسكونتي بـ"القطّة التي تعتقد بأنه يمكنك جعلها أليفة، لكن سرعان ما تتحوّل إلى نمرة". سرجيو ليوني، من جهته، صنع منها تمثالاً يذوب في الذاكرة في فيلمه "حدث ذات مرة في الغرب"، حيث وقفت وحدها، كامرأة صلبة، وسط رجال قساة وصحراء لا ترحم.

رغم نجوميتها، بقيت قريبة من الناس. لا تتكلّف. تفضّل الحديث عن السينما كفعل محض جمالي. لم تُغرِها هوليوود. كانت تعرف الفرق بين "الحرفي" و"الفنّان"، وتصر دائماً على أن المخرج هو سيّد العمل. صنعت شخصيتها المهنية على التوازي مع التزام إنساني صامت ينبذ الاستعراض.
عند النظر في مسيرتها الحافلة التي تجاوزت النصف قرن وعشرات الأدوار، يصعب ألا نتوقّف عند غرابة انطلاقتها واستثنائية حضورها وتماسك خياراتها المهنية التي جمعت بين الجرأة الغربية والحشمة الشرقية. هذه السليلة لعائلة إيطالية كانت هاجرت من صقلية إلى تونس، التي عاشت طفلة خجولة تختبر حدود القوة من خلال مراهقة صبيانية، لم تحلم يوماً بالسينما، ذلك انها أرادت أن تكون معلّمة في الصحراء. الصحراء التي أحبّتها، وكانت لا تزال تحتفظ بشيء منها في طباعها وسلوكها.

اللقاء الأول مع الشاشة جاء من باب المصادفة، أو من "باب البيكيني"، كما روت مراراً. حضرت إلى مسابقة انتخاب "أجمل إيطالية في تونس" من دون أن تكون مرشّحة للقب، فاختارها أحدهم وقلّدها الوشاح. بعدها سافرت إلى مهرجان البندقية، حيث بدأ الإعلام يتعامل معها كظاهرة. لا بسبب موهبتها، التي لم تكن قد ظهرت بعد، إنما بسبب البيكيني الذي كانت ترتديه. ففي تلك الأيام، لم يكن البيكيني شائعاً بعد. حضورها لفت، وانهالت عليها العروض. لكنها، لسبب لم يكن واضحاً حتى لها، كانت ترفض. لم تنجذب إلى الأضواء فوراً، لكن في النهاية خضعت، أو ربما قادها قدرها. أولى خطواتها الحقيقية على الشاشة كانت في "جحّا"، إنتاج تونسي فرنسي، إخراج جاك باراتييه، إلى جانب عمر الشريف. دور صغير، لكن الحضور كان واعداً. الممثّلة السمراء ذات الملامح المتوسطية والعينين الغامضتين دخلت الكادر. لم تغادره أبداً.
ضمن ظروف اختيار غير تقليدية، أسندها ماريو مونيتشيللي دوراً في ”المجهولون المعتادون“ عن شلّة تستعد لعملية سرقة، فيلم جمعها بفيتوريو غاسمان وتوتو وأتاح لها أول لقاء مع مارتشيللو ماستروياني. بيد ان التحوّل الفعلي في مسيرتها كان مع "روكو وأخواته" (1960)، رائعة لوكينو فيسكونتي، وإن باطلالة متواضعة. في مشهد يتوسط فيه العنف بين الإخوة، أمر فيسكونتي الممثّلين أن ينتبهوا على "الكاردينالي". عرفت يومها أنها لم تعد مجرد وجه عابر. في تلك السنوات، أي عقد الستينات، عملت كاردينالي مع أعظم مخرجي أوروبا: فيسكونتي، فيلليني، ليوني، كومنتشيني وبولونييني (خمس مرات)، وغيرهم. كلٌّ من هؤلاء أسند إليها أدواراً مختلفة تماماً، وكأنها بالفعل تجسّد مبدأ "كلّ النساء في امرأة واحدة“.

1963 عامٌ ذهبي في مسيرتها، مثّلت في فيلمين هما من روائع السينما الإيطالية: "ثمانية ونصف" لفيلليني و"الفهد" لفيسكونتي. الأول، يتناول مخرجاً يهرب إلى خياله، حيث تجسّد كاردينالي المرأة المثالية، الحلم، الملهمة. والثاني، حكاية انهيار الطبقة الأريستوقراطية وصعود البورجوازية الجديدة، وفيه لعبت دور أنجليكا إلى جانب برت لانكاستر وألان دولون. الفيلم نال "السعفة الذهب" في كان.
كان صوتها علامة فارقة. أضفى عليها هالة من النضج، الغموض، والأنوثة القوية. صوت خفيض، عميق، "صوت رجل تقريباً" كما وصفته، اضطرها إلى الدبلجة في بداياتها، ليس فقط بسبب طبيعة الصوت، بل لأنها لم تكن تتقن الإيطالية بعد. حتى تدخّل فيلليني، وأصرّ على أن يُسمع صوتها الحقيقي، من دون أن تهمّه لكنتها الفرنسية.

في مواجهة مد الإغراء المتمثّل آنذاك في صوفيا لورين وجينا لولويريجيدا، رفضت كاردينالي أن تعري جسدها على الشاشة، واعتبرت ذلك شكلاً من أشكال "بيع الجسد". لم ينفع معها الإقناع، ولا المغريات. اختارت أن تحافظ على حدودها. قالت: "أنا ضد فكرة التعري في الأفلام. لا أحبّه. انطلق من مبدأ أنه إذا تخيلتَ ما تحت ملابسي، فسيزداد الجانب الإيروسي فيّ“. هذا كله لم يمنعها من أن تصبح ”بريجيت باردو السمراء“، لكن على طريقتها ”اللاتينية ”الخاصة.
لم يكن الغموض، بالنسبة لها، استراتيجيا تسويقية بقدر ما كان جزءاً من شخصيتها وطبيعتها. حرصت على أن تبقى حياتها الخاصة في الظلّ، بينما كانت تملأ الشاشات بحضورها الأخّاذ.

تنقّلت بين سينمات العالم: من هوليوود إلى فرنسا، من روسيا إلى البرتغال فتونس. عملت خارج بلادها مع فريد بوغدير، يرجي سكوليموفسكي، ريتشارد بروكس، فيليب دو بروكا، بلايك إدواردز، هنري هاثاواي، فرنر هرتزوغ، واللائحة طويلة. عام 2012، انضمت إلى عالم البرتغالي مانويل دو أوليفيرا، عميد السينمائيين (توفى عن 106)، في "جيبو والظلّ" آخر أفلامه، بعد أن وصفها في مهرجان البندقية بأنها ممثّلته المفضّلة. تركت له بطاقة شكر، فاختارها للدور. بسيطة إلى هذا الحد كانت مسيرتها: من شكر إلى شراكة فنية.
لم تجرب كاردينالي الإخراج، لكنها تعلّمت كلّ شيء على البلاتوهات. كانت تعرف، بسبب الخبرة، إن كانت الإضاءة صحيحة أو الكادر مناسباً، من دون أن تتدخّل. اختارت أدوارها بناءً على ما في النص من ملامح، لكنها اعتبرت أن الأهم من الدور هو اللقاء بالمخرج. عن الذين عملت وإياهم، قالت: "يسكنونني جميعاً. أسمع أصواتهم أحياناً وهم يوجّهون لي التعليمات". نجوميتها ولدت من تفاعل عضوي مع هؤلاء. صنعوا صورتها، وهذه الصورة بقيت.

رغم شهرتها على نطاق واسع، لم تنسَ من أين أتت. تونس كانت حاضرة دائماً في ذاكرتها، بطفولتها وأحيائها وبحرها وعائلتها. لكن كانت تزورها وتنزعج: "شواطئ قذرة وساحات مهملة"، قالت في حواري معها عام 2012. كما تحدّثت عن قوارب الموت التي تحمل الشباب إلى صقلية، عن بلد لا يوفر لسكّانه الحد الأدنى، عن وجع صامت وحزن عميق.
"هويتي هي هوية العالم"، أعلنتها بوضوح. ولعلها بذلك تختصر ما كانت عليه فعلاً: امرأة تشبه المتوسط في تعدّده وتناقضاته، ابنة أفريقيا، وصوت أوروبا، وعين الشرق، وجسد "الفاتنة العذراء". ممثّلة بلا وطن، أو بكلّ الأوطان، أو كما تقول: "إني حصيلة كلّ الأمكنة التي قصدتها، وكلّ الأدوار التي تقمّصتها”.

حتى في خريف العمر، حافظت على إيقاع عمل معين. كأن العمر تفصيل لا يغيّر في جوهرها. "أحب الزمن ومخلّفاته، وأكره مَن يعبث به"، قالت، في اشارة إلى عدم هوسها بالشباب.
تنقّلت بين سينمات العالم، لكن لم تجرِ وراء الشهرة أو المال. بحثت عن "الناس، قضاياهم، ثقافاتهم". كلّ فيلم، وكلّ بلد، ترك فيها شيئاً. من مشاهد التصوير في درجات حرارة تحت الصفر، إلى الرحلات في الصحراء، إلى المشي وحدها في شوارع أميركا، كانت دوماً تتأمّل وتراقب وتتعلّم.

عندما نُسأل اليوم "ما الذي يبقى من كلوديا كاردينالي؟"، نجد صعوبة في حصر الإجابة في صورة أو مشهد. ما يبقى هو مدرسة في الأداء، في الاختيارات، في السلوك المهني، في الوعي بالذات وبالآخر. ممثّلة استطاعت أن تكون أكثر من "جميلة" على الشاشة. في زمن كانت فيه المرأة كثيراً ما تُقترح كعنصر جمالي أو مكمّل، حفرت كاردينالي في شخصياتها لتقدّم نساءً معقّدات، حقيقيات، من لحم ودم وتاريخ ورصيد من المعاناة.
"يستهويني أن أرى وحدة الحال بين الناس". في هذه الجملة تكمن فلسفتها. لم تكن تبحث عن الراحة أو التكرار، بقدر ما سعت إلى المغامرة. آمنت بالمصير، لكنها لم تترك الأمور للمصادفة. رفضت أدواراً، تمردت على سلطة الجمال، التي أرادها الآخرون قيداً لها، بدلاً من أن تكون امتداداً لحريتها. كانت "الكاردينالي" امرأة سبقت عصرها، وواجهته بكامل أنوثتها وشراستها. من تونس إلى روما، فمن البندقية إلى هوليوود، عاشت ألف حياة وحياة، على الشاشة وخلفها.
نبض