"طربوش جدّي معلّق": كيف نروي حكاية لا تكفّ عن تكرار نفسها؟

أُطفئت الأنوار في مسرح "مونو" البيروتي، ثمّ استنار بأضواء مبعثرة خارجة من كشّافَيْن صغيرَيْن على رأسَي ممثّلَيْن يؤدّيان شخصيّتَي طفلَي حرب. المسرح يتحوّل أمامنا ملجأً، ونصلّي برجاءٍ ألّا تكون "طربوش جدّي معلّق" (تأليف مروى خليل ورياض شيرازي، وإخراج الأخير) مجرّد مسرحيّة أخرى عن الحرب الأهلية اللبنانية.
ذاك المساء، دخلنا إلى عملٍ يعرف مسبقاً فخاخ موضوعه. ليس سهلاً أن تكتب عن الحروب اللبنانية من دون أن تستدعي قاموس نشرات الأخبار وأحاديث النوستالجيا والتعابير الجاهزة. المسرحية تختبر هذا الحقل الشائك وتُجرّبه على جسد قصة حبّ، تؤطّرها بالحرب بدل أن ترمي المآسي بوجهنا، وتُحوّلها إلى علاقة تتشظّى بين من بقي ومن رحل. بذلك، يتخلّص العمل من الحديث عن الحرب لمجرّد الحديث عنها، ليصير مسرحاً عن الإنسان الذي خلّفته الحرب وراءها.
دراما على هيئة حقيبة يد
يمتدّ خطّ السرد بين الثمانينات و2025. هلا (مروى خليل) تغادر، وإبراهيم (جنيد زين الدين) يبقى. لا جديد ظاهرياً في هذه الثنائية، لكنّ المعالجة تقترح زاوية نظر: الزمن هنا حقيبة سفر تُحشر فيها الأعوام والمشاعر والتحوّلات على عجل. نتنقّل بين محطات مفصلية من تاريخنا اللبناني (الاجتياح الإسرائيلي، عملية "عناقيد الغضب"، اتفاق الطائف، تحرير الجنوب، حرب تموز 2006، انتفاضة 2019، انفجار المرفأ، الحرب الإسرائيلية) تحمل وعوداً مؤجلة بالاستقرار. في كلّ عودة، تجرّب هلا أن تمنح البلد - والحب - فرصة أخيرة، فإذا بالمشهدية تُعيدها إلى النقطة نفسها: هوية مُعلّقة في الاغتراب، وبيت لا يكتمل سكناه.
تستعير المسرحية صورة "مسافر" برونو كاتالانو: جسد ناقص يحمل نفسه في حقيبة. هذا هو اللبناني كما قدّمته مروى خليل: كائنٌ يُكمل أطرافه المفقودة بذكريات، بلهجة، بصورةٍ على الحائط، وبوهم أنّ العودة ممكنة إذا ما اتّفق السياسيون وتجمّلت المدينة. لكنّ الناقص لا يكتمل، والعودة تتحوّل طقساً دورياً.
ممثلان وإيقاع مكثّف
إخراج رياض شيرازي يميل إلى الإشباع البصري والحركي. الخشبة مكتظّة بعلامات وحركات وانتقالات - وهذا خيارٌ يُشبه البلد - والكثافة تصنع ديناميّة تمنع الملل وتُنعش المشهد.
يستثمر العمل ذكاء جنيد زين الدين وتمرّسه في الكوميديا. لحظات السخرية تُخلخل ثقل التاريخ وتمنح الجمهور حقّ الضحك بوصفه آلية دفاع لا مجرّد ترفيه. في المقابل، تحضر مروى خليل جسداً وصوتاً: تُمسك بمسار هلا كمن يرسم خطّ ارتحال داخلي قبل أن يكون جغرافياً. قوّتها في التعبير الحركي تمنح الشخصية صدقاً، كيف لا وهي تعيد تمثيل فصول من حياتها الشخصية؟
يمرّ انفجار المرفأ ومضةً، ثمّ نغرق في الحرب الإسرائيلية الأخيرة. خيارٌ واعٍ على ما يبدو: لا استثمار في الجرح المباشر، ولا إعادة تمثيل للمأساة. تترك المسرحية للمشاهد أن يضع ندبته الخاصة في الفراغات. هنا مكسبٌ إذا ما اعتبرنا أنّ العمل يرفض الابتزاز العاطفي.
"طربوش جدّي معلّق" مسرحية عن جيل تائه يختبر العودة كفكرة أكثر منها قراراً، ويعالج انقسامه الداخلي بين وطنٍ لا يهدأ ومنافي لا تتبنّى. ماذا نفعل بتعلّقنا بـ"وطن ينتحر كلّ يوم بينما يتم اغتياله"، على رأي ناديا تويني؟ لماذا لا نفلح في مغادرةٍ نهائيّةٍ ولا في إقامةٍ نهائيّةٍ؟ يربطنا "الطربوش" بالاسم والعائلة والذاكرة، لكنه يظلّ مُعلّقاً: لا على رأسٍ، ولا في صندوق مغلق. مُعلّقٌ، لأنّ البلد معلّق.