من الإمارات إلى فرنسا... إرث سلطان العويس يردّد قيم الإبداع والإنسانية

تحت رعاية وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، فتحت باريس أبوابها الخميس الماضي لواحدة من اللحظات الثقافية النادرة: ندوة دولية تكرّم الشاعر سلطان بن علي العويس وتحتفي بـ"رحلة الشعر والعطاء". محطّة تحتفي بمئوية شاعر ترك أثره العميق في وجدان الإمارات والعالم العربي، وأطلّ في رحاب اليونسكو عبر الشعر والفكر والفن.
شاعر ذو حساسية عميقة
كان مولده في بلدة الحيرة بإمارة الشارقة، عام 1925. نشأ في بيتٍ مُحِبٍّ للأدب والعلم، فارتبط مبكراً بالشعر وتقاليده، وتشكّلت حساسيته بين مجرى التجارة المشرَّع على البحر وروح المدينة وهويتها، حيث عمل في تجارة اللؤلؤ. في استحضار بداياته ما يفوق التفصيل السيري العابر، إذ إنّها المفتاح الذي يفسّر لماذا تحوّل العويس جسراً بين جيلين من الكتّاب والشعراء في الإمارات والعالم العربي، وكيف استطاع أن يجعل من القصيدة مساحةً رحبةً للانتماء والعطاء والمعنى العام.
ليس في سيرة العويس ما يُغري بالصخب؛ فيها ما يُلِحُّ على التفكير بالإنسانية: رجلٌ أنِسَ بالمسؤولية الاجتماعية كما أنِسَ بالشعر، واعتبر أن الفعل الثقافي لا يكتمل بلا رعايةٍ ومؤسسات. لذا سيُسجَّل له، عام 1987، أنه أسّس جائزةً دائمةً مستقلة تحمل اسمه، على أن تُدار بقدرٍ عالٍ من الحياد وتُعنى بمختلف حقول الإبداع والفكر العربيَّين. بعد عامين انطلقت أولى دوراتها، لتغدو - مع تراكم أسمائها وفئاتها وقيمتها - واحدة من أرفع الجوائز العربية وزناً ومن أكثرها انتظاماً وتأثيراً في حركة الكتابة. كانت إعلاناً بأنّ الثقافة، كي تبقى، تحتاج إلى بنيةٍ تُصغي وتمنح، متماشية مع الرؤية الإماراتية للعلم والثقافة.
من الإمارات إلى فرنسا
على امتداد يومين، اجتمعت أسماء لامعة من الشعراء والباحثين والمستشرقين، من بولندا إلى ألمانيا، ومن البحرين إلى لبنان، ومن إيطاليا إلى العراق، ليتحاوروا حول العويس، وليشاركوا في رسم صورة جديدة له، تتجاوز حدود السيرة إلى أثره الممتد في الثقافة العربية.
على مستوى الصورة الأدبية، ظلّ من الأصوات التي تُشعِر القارئ بأن القصيدة ليست ترفاً لغوياً، بل تنفّسٌ جمعيٌّ يتّسع للشجن والأمل. تُجمع الكتابات الإماراتية التي استذكرت أثره على أنه "وجهٌ مرجعيّ" في وعي جيلٍ كامل، وأن حضوره الشعري كان باعثاً على الثقة بقدرة النص المحلي على مخاطبة الذائقة العربية بثبات وهدوء. أسماءٌ كثيرةٌ تلت العويس، ووجدت في طريقه ما يشجّعها على المضيّ قدماً؛ أمّا هو، فظلّ في الذاكرة قرينَ البساطة المقتدرة وكرم الروح.
في باريس، استحضرت وزيرة الثقافة نورة الكعبي صورة العويس الذي جمع بين شاعرية راسخة وعطاء إنساني ممتدّ، مؤكدة أنّ إرثه الثقافي والخيري يظل نبراساً للأجيال. وذكّرت بأنّ "إبداع العويس لم يقتصر على صياغة القصائد فحسب، بل تجاوزها إلى التعبير بصدق وأصالة عن تطلعات إخوانه وأخواته المواطنين وآمالهم، جامعاً في شعره بين عبقرية التراث وروح العصرنة". والأهم، أنّ العويس "استثمر في ركائز المستقبل: التعليم، والمؤسسات الثقافية، والجوائز التشجيعية، ضامناً بذلك تقدير الأجيال القادمة من المبدعين العرب ودعمها في شتى المجالات".
ولأن الشعر عنده التزامٌ أخلاقيٌّ، أصرّ العويس على أن يقترن الاسم بالشراكة الاجتماعية: دعمٌ للمبدعين، واحتفاءٌ بالمفكرين، ومؤسسةٌ لا تتورّط في الضجيج، بل تشتغل على التراكم والتقاليد. ولهذا لم يكن غريباً أن تتوجّه الدولة، بعد رحيله عام 2000، إلى إحياء ذكراه في محطاتٍ مختلفة، وأن ترى فيه رمزاً ثقافياً تجاوز حدود سيرته الشخصية إلى أثرٍ مُؤسِّس في المشهد الإماراتي.
"الإبداع والإنسانية والتضامن"
خلال افتتاح الندوة، ذكر مساعد المديرة العامة لقطاع الثقافة في منظمة اليونسكو إرنستو أتون راميريز أنّ "العويس لم يكن شاعراً ذا حساسية عميقة فحسب، بل كان أيضاً كاتباً وخيّراً وسفيراً ثقافياً"، معتبراً أنّ "صدى حياته وأعماله يتردّد بعمق، إذ يجسّد قيم الإبداع والإنسانية والتضامن التي تشكل جوهر رسالة اليونسكو".
إرث العويس وجد صداه في أروقة اليونسكو، وهو ما أكّده رئيس مجلس أمناء "مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية" الدكتور سليمان موسى الجاسم بقوله إنّ الشاعر "أدرك مبكراً أنّ قوة الأمم لا تُقاس بما تملك من ثروات ومبانٍ شاهقة، بل بما تحفظه من إرث فكري، وبما تضيفه من أسئلة وأحلام إلى المسيرة الإنسانية".
إننا، ونحن نقرأ العويس اليوم في مئويته، لا نُعيد ترتيب ماضي شاعرٍ، إنّما نتحقّق من صلاحية فكرةٍ جعلته يربط بين القصيدة والعمل العام: أنّ الثقافة شراكة، وأنّ العطاء جزءٌ منها. ولهذا يبدو العويس، في المخيال الإماراتي والعربي الثقافي، صيغة هادئة لـ"الهيبة" التي يبلورها الشعر حين يقترن بالعطاء، والذكرى حين تُصبح برنامجاً مستمراً للمعرفة وللحياة الثقافية.