البندقية 82 – "هجرة": طريق الحرية أهم من الحرية

في ظلّ الزخم المتنامي الذي يشهده القطاع السينمائي السعودي، وتعدّد التجارب التي تتراوح في مستواها بين العادي والمقبول والجيد، - علماً أن أفضل ما شاهدته سعودياً حتى الآن يبقى "مندوب الليل" لعلي الكلثمي – يبرز فيلم "هجرة" المعروض ضمن قسم "سبوتلايت" في مهرجان البندقية السينمائي (27 آب/أغسطس – 6 أيلول/سبتمبر)، بوصفه محطّة لافتة في مسار هذا الحراك الفنّي.
الفيلم يحمل توقيع المخرجة شهد أمين، التي فرضت حضورها كأحد الأسماء البارزة في المشهد السينمائي السعودي الجديد، منذ أن قدّمت باكورتها الروائية الطويلة "سيدة البحر" في الليدو قبل بضعة أعوام. ويأتي "هجرة" اليوم ليؤكّد نضج رؤيتها الإخراجية وجرأتها في استكشاف قضايا اجتماعية وثقافية شائكة.
يجسّد الفيلم، بعمق بصري وسردي، التحولات الجذرية التي تمرّ بها السعودية في مجال الفنّ السابع، ويعكس واقعاً متشابكاً مليئاً بالتناقضات، من خلال رحلة درامية تخرج المُشاهد من الأطر النمطية، لتقوده إلى فضاءات سينمائية أكثر انفتاحاً وإنسانيةً.
تبدأ الحكاية باختفاء الفتاة سارا خلال رحلة حج كانت تقوم بها برفقة جدّتها وشقيقتها (خيرية نظمي ولمار فادن)، في حادثة تبدو عابرة في ظاهرها، لكنها سرعان ما تتحوّل إلى نقطة انطلاق تأملية تتشعّب منها أسئلة كبرى حول مفاهيم التحرّر والدين، ضمن إطار اجتماعي وثقافي قد لا يفهمه إلا مَن عاشه.
ما يميّز "هجرة" ليس فقط طرحه لهذه القضايا، إنما قدرته على رسم شخصياته المبتكرة بعيداً من النمطية والمثالية. الجدّة، التي هي احدى الشخصيتين المحوريتين في الفيلم، سيدة قاسية، تجسّد جيلاً تشكَّل في كنف التقاليد الراسخة والقيم الاجتماعية الصارمة. هي شخصية مغلقة على موروث لا يقبل المراجعة، وإن تكن تجربتها الشخصية محفورة بالخسارات والندوب، مما يكسبها عمقاً إنسانياً رغم قسوتها الظاهرة.
في المقابل، تبرز حفيدتها جنى كشخصية تتطوّر بهدوء، لكنها تصبح مع الوقت النواة العاطفية للفيلم. لا تعبّر كثيراً، لكن عينيها وتفاعلاتها البسيطة تتكفّل نقل مشاعرها، فتغدو رمزاً لبراءة مشتهاة، تتوق إلى الانعتاق من القيود من دون أن تملك وسائله.
السائق أحمد (نواف الظفيري)، الخارج على القانون، يدخل المشهد من الهامش، ثم يتقدّم تدريجاً ليحتل مكانة محورية، رابطاً الخيوط بين الشخصيات. كلّ منها يواجه صراعه الخاص داخل نسيج اجتماعي يحكمه التقسيم الطبقي، ويعرّفه بحسب موقعه من السلطة والحرية والوجود.
على مدار ساعتين، يأخذنا الفيلم في رحلة عبر مناطق صحراوية نائية وطرق وعرة. غير أن هذه الرحلة لا تُختزَل في انتقال جغرافي رتيب يحوّل الفيلم إلى مجرد "رود موفي" آخر، إنما هي، في جوهرها، سفرٌ داخلي، رحلة تحوّل نفسي تضع الشخصيات أمام ذواتها، وتقلب موازينها رأساً على عقب.
يحضر الحديث عن الدين في "هجرة" بوصفه عنصراً محورياً، وهو أمر يكاد يكون بديهياً في السعودية ما بعد 2017. لكن الفيلم لا يكتفي بعرض الدين كسلطة أو منظومة فكرية متوارثة، اذ يموضعه ضمن تجربة فردية تتفاعل مع سؤال الحرية، وتشتبك معه ذاتياً وروحياً. في مجتمع مثقل بالقيود الدينية والطبقية، يختار الفيلم ألا يعكس هذه الصورة كواقع جاف أو خطاب نمطي. تتجسّد هذه المفارقة في شخصية الجدة التي، رغم قسوتها وتشبّثها بمعتقدات لا تتزحزح، تظلّ في نظر حفيدتها موضع إعجاب وتقدير. هنا، لا تُقدَّم المعتقدات بوصفها مسلّمات، بل يُنظر إليها كنتاج لتجارب شخصية، ومصدراً دائماً للتساؤل بين الإيمان العميق والتديّن الشكلي. وهكذا، تنفتح أبواب النقاش على مصراعيها حول إمكان التوفيق بين العقل والروح، بين ما نؤمن به وما نمارسه.
الطريق الطويل الذي تسلكه الشخصيات، بكلّ وعورته وأخطاره، لا يرمز إلى انتقال مكاني فحسب، إنما إلى تحدّ وجودي يسعى من خلاله كلّ فرد إلى اكتشاف ذاته. تدرك شهد أمين أن الطريق إلى الحرية قد يكون، سينمائياً، أكثر جاذبيةً من الحرية ذاتها. لذا، تحوّل الجغرافيا السعودية من مناظر إلى كيان حيّ يتنفس ويتفاعل، من الجبال الصلدة إلى البحر المفتوح فالصحراء اللامتناهية. يصبح المكان هنا شريكاً في الحكاية. هذا المكان سيكون أيضاً شخصية تضيء مسارات الهروب، وتُعمِّق أبعاد البحث عن سارا – تلك الغائبة التي لا تعود سوى ذريعة لرسم رحلة داخلية لأبطال الفيلم الثلاثة، بكلّ ما يحملونه من ألم وحلم وصراع.
بعيداً من السرديات التقليدية التي تتناول قضايا المرأة بشكل شعاراتي، يقدّم "هجرة" مقاربة أكثر نضجاً وتعقيداً. لا تسعى شهد أمين إلى تلقين أو إملاء مواقف جاهزة، بقدر ما تحاول ان تفتح المساحة أمام المتفرّج ليعيش التجربة ويرافق الشخصيات في هشاشتها وارتباكها، وهذا كله بلا محرم.