الأميرة ديانا وجحيم الباباراتزي: حياة أحرقها وهج الصورة

حكاية متناقضة بين نقيضَيْن، هكذا يمكن اختصار ملامح علاقة الأميرة ديانا بالإعلام. قصة الحب المتبادلة مع الصحافة، سرعان ما حوّلها "الباباراتزي" إلى غزوة لخصوصيتها ساهمت، برأي كثيرين، في نهايتها المأسوية. في مطلع الثمانينات، بدت الليدي ديانا سبنسر أميرةً في حكاية أطفال، فأبهرت الصحافيين والمصوّرين الذين لم يشبعوا من ملاحقتها. وبحلول التسعينات، انحرف هؤلاء أنفسهم نحو المطاردة، يلاحقون أدق تفاصيل حياتها، في صورة صارخة عن الوجه الآخر الشهواني للشهرة.
بدايات خيالية تحت الأضواء (1981 – منتصف الثمانينات)
29 تموز/يوليو 1981، "زفاف القرن". حدثٌ تابعه عبر الشاشات نحو 750 مليون شخص حول العالم. في العشرين من عمرها، أصبحت الأميرة ديانا الوجه الجديد للعائلة المالكة البريطانية، وساهم الإعلام في تحويلها إلى نجمة دولية. أطلق عليها الصحافيون لقب "Shy Di" أي "ديانا الخجولة" بسبب ملامحها الطفولية الرقيقة، وابتعادها عن الإبهار، وعينيها الواسعتين.
بدت العلاقة بينها وبين الصحافة قائمة على تبادل المصالح. "أسطول" المصوّرين في شارع فليت اللندني كان يوفّر للصحف ووسائل الإعلام العالمية تغطية مكثّفة لصورة الأميرة الشابة الجميلة؛ وديانا، رغم خجلها، تعلّمت كيف تتعامل معهم. يروي كين وورف، حارسها الشخصي السابق، أنها كانت "تشجّع حواراً مفتوحاً مع معظم المصوّرين المعتادين، تمزح معهم وتسمح بالتقاط صور تبقيهم في صفها". وقد جنت ثمار هذه السياسة: أفرطت الصحف في الإشادة بأناقتها، وكاريزمتها، وصورتها الإنسانية، مما زاد من سحرها العالمي، ولاحقاً صورتها المقدّسة.
خلف الكواليس، كان وهج الأضواء يلتهم روحها شيئاً فشيئاً. حتى قبل زفافها، بدأت الصحافة تلاحقها بلا هوادة. وقد اعترفت متأفّفة قبل الزواج: "أينما ذهبت أجد أحدهم هناك... الأمر مرهق جداً". أحد الحوادث المبكرة عام 1980 - حين التُقِطت لها صور أظهرت ضوء الشمس يخترق تنورتها - تركتها في حالة بكاء ورعب من هذا التدخّل السافر، وشكت الأمر إلى الأمير تشارلز، بشهادة المراسل الملكي السابق تشارلز راي، الذي كان يكتب لصحيفة "الصن" خلال ذروة علاقة تشارلز وديانا.
مع ذلك، كانت ديانا تدرك أن الإعلام قد يكون سلاحاً نافعاً. فقد أشار بعض المراسلين الملكيين لاحقاً إلى أن الصحافة أدّت دوراً رئيسياً في تلميع صورتها كعروس مثالية للأمير تشارلز، وساعدت في تحويل أريستقراطية خجولة إلى وجه ملكي وأيقونة عالمية. وكما قال الصحافي هاري آرنولد: "إلى حدٍّ ما، كان هذا الزواج من صنع الإعلام".
تدريب ذاتي على استثمار الإعلام (أواخر الثمانينات – مطلع التسعينات)
سنوات مرّت والشائعات تغذّي سرديّات الإعلام المبهور بصورة "أميرة القلوب". ازدادت براعة ديانا في توظيف الإعلام لخدمة صورتها وقضاياها، إذ أدركت قوة الصورة والعنوان. عام 1987، سمحت بالتقاط صورة لها وهي تعانق بحرارة أحد مرضى "الإيدز" (السيدا)، في لقطة أحدثت صدمة إيجابية وساهمت في تبديد الوصمة المحيطة بالمرض. كانت تقول لأصدقائها: "ما دمت محاطة بكل هؤلاء الصحافيين، فالأجدر أن أستغل ذلك لعمل مفيد". وسرعان ما توالت الصدمات الإيجابية.
خلال جولاتها الرسمية وزياراتها الإنسانية، كثيراً ما تعاونت مع المصوّرين، ويشير البعض إلى أنّها أحياناً سرّبت معلومات لصحافيين مقرّبين لتأمين تغطية لقضاياها. هذا التعامل الذكي مع الإعلام رسّخ صورتها كـ"أميرة الشعب" ذات القلب الرحيم. وفي السنة الأخيرة من حياتها، استخدمت صورتها بوعي أكبر بكثير، في عالم يضجّ بالقضايا المفصلية، يحرّكه دفق الأحداث.
هذه اللعبة الإعلامية بقيت محفوفة بالمخاطر، وبينما كان زواجها يتداعى تحت أعين الجمهور مطلع التسعينات، استخدم كلّ من ديانا وتشارلز الصحافة لتقديم روايته. عام 1992، تعاونت سرّاً مع أندرو مورتون في كتابه المدوّي "ديانا: قصتها الحقيقية" (Diana: Her True Story)، كاشفة عن تعاستها وخيانة زوجها. وبعد سنوات قليلة، وفي مقابلة تلفزيونية شهيرة عام 1995 مع برنامج "بانوراما" على الـ"BBC"، تحدّثت صراحة عن اكتئابها و"البوليميا" واضطراباتها وعن علاقة تشارلز بكاميلا، مختصرة مأساة زواجها بعبارتها الشهيرة: "كان هناك ثلاثة أشخاص في هذا الزواج".
بهذه الخطوات، سعت ديانا لانتزاع حق رواية قصتها من قبضة القصر، لكن الثمن كان اشتعال شهية الصحف الصفراء و"الباباراتزي". الاتهامات توالت بأنها تتلاعب بالإعلام لمصلحتها، فيما اعتبر آخرون أنها لم تفعل سوى ما يفعله السياسيون المحترفون باسم "فنّ العلاقات العامة".
الصحافة تجاوزت كل الحدود: تنصّتت على مكالماتها الخاصة، ونشرت محادثات هاتفية سرّية. طاردها المصوّرون أمام منزلها وفي كلّ ظهور خاص. عام 1993، تسلّل مصوّر من مجموعة "ميرور" إلى نادٍ رياضي والتقط صوراً لها وهي تتمرّن، ما دفعها إلى رفع دعوى قضائية. كانت الحماية القانونية للعائلة المالكة قبل وفاة ديانا ضعيفة للغاية. وكانت تلك الدعوى الوحيدة التي رفعتها أميرة ويلز ضدّ مؤسسة إعلامية في ذروة شهرتها. وقد علّقت الـ"BBC" آنذاك بالقول: "قرار الأميرة ديانا يمثّل نهجاً جديداً من العائلة المالكة، التي اعتادت تقليدياً تجنّب اللجوء إلى القانون للردّ". انتهت القضية بتسوية خارج المحكمة، فتجنّبت ديانا الإدلاء بشهادتها.
بداية التسعينات جعلت ديانا، التي كانت يوماً نجمة مدللة، في موقع الضحية. كتب سكرتيرها الصحافي السابق باتريك جيبسون أنها "شعرت بالوحدة والخذلان" مع تراكم الأخبار السلبية. ومع ذلك، واصلت السعي إلى توظيف الإعلام بشروطها الخاصة، محاولةً السير على الحبل بين استغلال الصحافة والخوف منها. وفي دليل صارخ على ازدواجية المعايير وانقلاب الإعلام الأصفر ضدّها، قال مورتون: "حين يفعل الرجال ذلك يُسمّى تلميعاً إعلامياً، لكن عندما قامت به ديانا بطريقة بسيطة سُمّي تلاعباً".
سنوات ما بعد الطلاق (1996–1997)
شكّل طلاق ديانا من الأمير تشارلز عام 1996 منعطفاً خطيراً في علاقتها مع الإعلام. فبعد أن جُرّدت من لقب "صاحبة السمو الملكي" ومن حماية القصر، أصبحت أكثر عرضة لأقلام الصحافة الصفراء. المصوّرون الذين كانوا يتحفّظون أحياناً أمام أميرة ويلز، باتوا يطاردون ديانا كمواطنة عادية، مشهورة، بلا أيّ رحمة. يذكر مورتون أن بعضهم كان يصرخ في وجهها بعبارات مهينة فقط ليستفزّ دموعها ويلتقط صورة انهيارها.
في سنتها الأخيرة، يروي شهود أنّ ديانا كانت تواجه المصوّرين الذين يتجاوزون الحدود، وقد صرخت في إحدى المرات بيأس: "أنتم تجعلون حياتي جحيماً!". "الباباراتزي" في المقابل كانوا يسخرون من ألمها ويصفون نوبات غضبها بأنها "هجمات الجنون". لعبة فأر وهررة قاسية لا تنتهي، كانت ديانا الفريسة الدائمة فيها.
رغم ذلك، واصلت استثمار الكاميرات في رسالتها الإنسانية. ففي 1997، مشت وسط حقل ألغام في أنغولا، متواضعة ومتماسكة، مانحة العالم واحدة من أبلغ الصور التي وثّقت محطّات حياتها. قال مهندس الصوت روجر لوكاس: "كانت تعرف مواقع المصوّرين جميعاً، وتمنح كل واحد منهم صورته... كأننا نشاهد محترفة في قمّة براعتها".
لكن الصحافة لم تشبع، إذ بقيت حياتها الخاصة مادة شهية. صيف 1997، تحوّلت علاقتها برجل الأعمال دودي الفايد إلى مطاردة إعلامية عبر أوروبا، تُوجت بصور حصرية للثنائي على يخت، دفعت الصحف لقاءها مئات آلاف الجنيهات.
مأساة النفق ومساءلة الإعلام (آب/أغسطس 1997)
ليلة 31 آب/أغسطس 1997، غادرت ديانا مع دودي فندق "الريتز" في باريس، والمصوّرون يطاردون السيارة. دقائق قليلة، وفي نفق جسر ألما، اصطدمت السيارة بسرعة جنونية بعمود إسمنتي. مات دودي والسائق على الفور، وفارقت ديانا الحياة بعد وقت قصير متأثرة بجروحها.
أصيب العالم بالصدمة. شقيقها، إيرل سبنسر، اتّهم الصحافة بوضوح: "لطالما اعتقدت أنّ الصحافة ستقتلها في النهاية... لكنني لم أتخيّل أن يكون دورهم مباشراً إلى هذه الدرجة". وفي جنازتها وصفها بأنها "أكثر شخص مطارد في العصر الحديث"، هي التي تحوّلت إلى أكثر امرأة تُلتقط لها الصور في العالم خلال الثمانينات، إذ كانت الصحافة تلاحق كلّ تحرّكاتها بإعجاب وتقدير.
كشفت التحقيقات لاحقاً عن تعدّد العوامل التي أدّت إلى حادث باريس - أبرزها سائق مخمور - لكن "الباباراتزي" اعتُبروا بالفعل جزءاً من المسؤولية، إذ خلص تحقيق بريطاني إلى أنّ ديانا قد "قُتلت بغير وجه حق" نتيجة الإهمال الجسيم من السائق والمصوّرين المطاردين على حدٍّ سواء. أمّا في محكمة الرأي العام، فقد كان الحكم أشدّ قسوة. فقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة "غالوب" عام 1997 أنّ 43 في المئة من البريطانيين حمّلوا "الباباراتزي" مسؤولية "كبيرة جداً" عن وفاة ديانا.
بين ليلة وضحاها، وجدت الصحافة البريطانية الشرهة نفسها أمام موجة رفض غير مسبوقة. مبيعات الصحف الشعبية انهارت في الأسابيع التي تلت وفاة ديانا. المحررون الذين طالما تباهوا بالانفرادات عنها باتوا يتسابقون لإظهار شيء من التعاطف؛ حتى أنّ "الديلي ميل" أعلنت أنها ستمنع نشر صور الباباراتزي (وهو وعد تراجعت عنه لاحقاً). كما شدّدت الهيئات الصحافية معاييرها الأخلاقية، وسُرعان ما أُدخلت قوانين جديدة لحماية الخصوصية والحدّ من المراقبة المستمرة للشخصيات العامة.
وربما الأهم من ذلك، أنّ ولدي ديانا الصغيرين، الأميرين ويليام وهاري، حظيا بحماية من الإعلام لم تنلها والدتهما إطلاقاً. فقد التزمت الصحافة البريطانية احترام خصوصية الولدين المفجوعين، وهو تعهّد احتُرم إلى حدّ كبير طوال سنوات مراهقتهما.
"أميرة القلوب" و"اليأس المبكي"
في سنواتها الست والثلاثين القصيرة، عاشت أفضل ما قد تقدّمه الصحافة - الإعجاب الجماهيري، الإشادة، والمنبر الذي أتاح لها فعل الخير - وأسوأ ما في اللعبة الإعلامية: التطفّل، والتشويه، والمطاردة الشرسة التي حرمتها من حياة عادية. لم تكن ديانا ساذجة حيال هذه الحقيقة؛ وبحسب أصدقائها، أدركت في سنواتها الأخيرة أنها "هدف سهل"، وأصيبت باضطراب عميق أمام الطريقة التي حُرّفت بها أقوالها وأفعالها في الصحف الصفراء.
في صيفها الأخير، اعترفت لأصدقائها بأن المراقبة الإعلامية المستمرة "كانت تدفعها إلى يأسٍ مُبكٍ". الصحافة التي كانت تمجّد جمالها وإنسانيتها، تحوّلت في نظرها إلى "سعي دائم... للإطاحة بها"، كما قال شقيقها إيرل سبنسر في كلمة التأبين.
ديانا سبنسر، أميرة ويلز، "أميرة الشعب" و"أميرة القلوب"، كانت، في كثير من النواحي، صنيعة الإعلام الحديث، وفي نهاية المطاف كانت أيضاً ضحيته. ديانا والإعلام قصة حبّ وساحة معركة، فصل تراجيدي، ودليل دامغ على قدرة الصحافة على بناء صورة إنسان بالسرعة نفسها التي يمكن أن تهدمها بها، بعواقب غالباً ما تكون مدمّرة.