رحل الرّوائي خالد خليفة وهو يهيّئ للقيامة في بلده

لو لم يسبقه كافكا إلى عنوان "المسخ" في روايته الشهيرة المنقولة إلى العربية من الترجمة الفرنسية la métamorphose" (1915)" لكان أنسب عنوان للرواية التي خلّفها خالد خليفة ونُشرت بعد رحيله المباغت (2023): "سمك ميت يتنفّس قشور الليمون" (نوفل 2025). يسمّي الروائي السوري الذي أبدع أفضل الأعمال السردية في العقدين الأخيرين في أدب بلاده - "مديح الكراهية، 2006" و"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة "2013") - شخصياته بـ"المسوخ"، وهي ذاتُها تتبنى الوصف، وحمّلته هويةً تتحقق بالانزياح عن سواها في المجتمع، في بيئة تعيش فيها اتخذها الروائي مسرح نشاط أبطاله وتجسيد تيمة الفساد والتحلل الكلي.
تحررنا رواية خليفة الأخيرة من الالتفات إلى كاتبها، ولا استتباع مضمونها لسيرته، ليركز القارئ على النص ويتلقاه باستقلال عن كاتبه، وهذا بعض ما سماه النقد بـ"موت المؤلف" الذي يستبعد المرجعية السِّيَرية، ويدرس العمل بنيةً مغلقة. لولا أنّ خالد خليفة كتب رواية أقرب إلى الشهادة، وصرخ فيها بملء جوارحه، مشبعةً بالغضب والفضح والإدانة لِما آلت إليه أحوال بلده سوريا في العقد الأخير من القرن الماضي، زمن الرواية، يماثل وأكثر الزمن الحقيقي بعده إلى سقوط النظام. تحمل هذه الشهادة وتنطق بها شخصيات منتقاة بعناية ترسم الصورة الموحدة والمتعددة في صيغة ثنائيات: روني مقابل ماريانا؛ سام مقابل ريا؛ موسى مقابل منال؛ لكل منهم شاغل في الحياة، ويجتمعون في كتلة متظافرة - فرقة موسيقية هاوية "البلاك بيرد" - أسلوب حياتهم وسلوكهم وأذواقهم وعلاقتهم بأسرهم والعادات الاجتماعية والسلطة وكل شيء على النقيض الجذري من المجتمع، نعتهم بـ"عبدة الشيطان" وأدانهم بـ"الإلحاد" وسوّغ الكاتب هذا النعت بإباحيتهم الجنسية وتهالكهم على الحشيش وانفصالهم عن المتفق، فضلاً عن أن الفرز والعزل شرطان أوّلان لاختيار الشخصية الروائية، فكيف وهذه الرواية عمادُها الشخصيةُ والطباع، وليس الأحداث بوصفها أفعالاً.
نتذكر مسرحية بيرانديللو "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" (1921) تحتلّ مسرحاً طلباً لمن يكمل قصتها. وهنا ست شخصيات "يخلقها" خالد خليفة ويوجدها "فاعلةً" حسب نظامها في مكان محدد (مدينة اللاذقية) موضوعة هامشاً بالعلاقة مع المركز، دمشق، بما يتوافق، من جهة، مع هامشيتها، وانتزاع استقلالية بيئة يعرفها المؤلف جيداً، وينجح في رسمها طوبوغرافياً وبشرياً وثقافياً، من جهة أخرى. أكثر منه يقلب الهامش مركزاً ذا أبعاد وامتدادات بضواحي اللاذقية ومحيطها، كل خارج منها يعود إليها ويرتبط بها شرط وجود لا نوستالجيا.
روني الابن المدلل يحب ماريانا ويرتبطان بعلاقة إشكالية الانفصال أساسُها لا الدوام رغم رسوخ الحب. سام كذلك ابن مدلّل من عائلة مقرّبة للنظام يحب ريا في علاقة شائكة تدفعها للرحيل إلى أميركا لتقترن بأميركي لاذيقاني بين ذهاب وإياب بين بوسطن ومسقط رأسها وحضن عشيقها. موسى ابن العائلة الثرية كلَِفٌ بمنال ابنة أسرة فقيرة بل منحطّة بسبب وضع أبيها بائع سندوتشات وغسّال موتى ووسيط في العلاقات النسوية. علاقة إشكالية بدورها تُعقد وتُحلّ حسب مزاج منال المتمرد، الشاعرة والمغنية والزوجة والثائرة بلا حدود. تعنى الرواية بشخصياتها على أربعة مستويات: الشخصي، بمياسم كلّ واحدة، والزوجي، في العلاقة الدرامية (رجل وامرأة) والمستوى الثلاثي في التوتر مع العائلي وخلفياته. والرابع الأشمل مع المحيط الاجتماعي بمنظومته الأخلاقية والثقافية المتوارثة، والاستبداد السياسي المهيمن.
تشتغل رواية خالد خليفة بنسق اختلاف الأجيال والتمرد على سلطة الآباء والقيم السائدة، بـ"براديغم" طرح مؤسسة البديل، فرقة "البلاك بيرد" الغنائية التي تعزف موسيقى غربية نشازاً وتشهر التحدي الكبير حين تعزفها في الكنيسة بدل التراتيل المقدسة بمصاحباتها التقليدية. من هذا المحراب الكنسي لا يجد شباب الفرقة سوى الدكاكين الخلفية في أوقات فراغ البيع وفي أزقة مهجورة لممارسة فنهم، وهم يستهلكون وقتهم ونزواتهم في مدينة محسوبة المعالم بين كورنيشها الغربي وبحرها وشوارعها، يتيهون في هذه الأفضية بين الجنس والعزف والمخدر، بعض جو من "ضياع في سوهو" في طقوسهم.
في هذا المعيش شبه الوجودي تدور حياتهم في فلك التكرار والرتابة بعيش مضمون مادياً، ولا مبالاة، وأحياناً بقبول التواطؤ مع النظام لتحقيق منافع ووجود أفراد غلاظ منه ورموز له يقدمها الكاتب في شخصيات موازية (العمة أمل، مضر المسؤول الكبير في المخابرات، منعم أخو منال الجلاد لديها)؛ يفترقون حيناً، وتجمعهم العُروة الموسيقية حيناً آخر، وكلٌّ يبحث عن الحب بطريقته، لكن جليد اليأس يسكن قلوبهم، فهم يعيشون بين أسلاف يعيشون في أفول بين أمجاد الماضي وخيبات الحاضر، ومجتمع فاسد يرسم عنه الروائي أكثر من نموذج للنهب والتهتك والتسلط، وسلطة لها اليد العليا تنشر الرعب في كل مكان "من الممكن لأيّ أحد أن يغيب لمجرد أنه قال كلاماً" (191).
وكأنه تحصيل حاصل لمن يقرأ رواية خالد خليفة الأخيرة أن يقول إنه بعد الإدانة المطلقة لنظام والتنديد بقمعه الطويل وتخريبه للبلد، وتحويله الجيل الجديد إلى مسوخ (التشويه وفقدان الأصالة) وجعل البشر خدماً، وأرشفتهم مخابراتياً؛ يدق ناقوس نهاية النظام وساعة القيامة، يكتب فوق الركام، بالشظايا والأشلاء، أجساداً ومشاعر، بروح فجائعية، ونبرة جناز يمتد في 263 صفحة، يعانق الشعر النثر، والحزن المرح، والألم البهجة، والعقل السخرية، والمسوخ نقيض أصول كانت. ليس العنوان وحده استعارة "سمك ميت يتنفّس قشور الليمون" بل الرواية بأكملها وقد ضمن لها كاتبها حبكةً موثقةً وبنياناً مرصوصاً ووزع أنواع خطابها على شخصيات متمايزة ومتكاملة بتوظيف بوليفوني منسق؛ بعد هذا وغيره بصمَها بالطابع الجريح وختم المرثية لزمن وجيل وتاريخ كتب فوق ركامه، كتابة سابحة في المياه المجازية، رواية الأفول وربما استشراف غد مأمول، كيفما كانت الحال فهي رواية زمنها بامتياز، لا يُعلى عليها.