الشاب مامي: هل يمحو صوتُ الراي ذاكرةَ الجريمة؟

بعدَ غيابٍ امتدّ لأكثر من عشر سنوات، يعودُ الشاب مامي إلى جمهوره حاملاً رصيداً غنياً من أغان صنعت له مكانةً خاصة في تاريخ الراي الجزائري. فقد استطاع منذ بداياته أن يميّز نفسه بلون موسيقي مختلف عن تجارب أسماء بارزة مثل الشاب خالد وحسني وغيرهما، ليثبت حضوره ببصمةٍ صوتية متفرّدة مكّنته من بلوغ العالمية من دون أن يقلّدَ أحداً.
خلال هذا الغياب، ظلّ مامي الغائب الحاضر، حتى اعتقد كثيرون أنّ مسيرتهُ قد انتهت بسببِ قضيةِ الإجهاض القسري التي سُجِنَ بسببها في فرنسا. لكنّه كان يؤكّدُ في مقابلاته أنّه لم يعتزل الفنّ وأنّه سيعودُ في الوقتِ المناسب، ويبدو أنّ الموعد قد حان أخيراً، إذ انطلقَ في جولةٍ غنائية، بدأها من مدينة الحمّامات في تونس، إلى مسرح الكازيف في الجزائر العاصمة ثم مسرح وهران، في انتظار حفلاتٍ مرتقبة سيحييها في باريس.
هل نفصلُ بينَ الصوتِ وصاحبهِ؟
هذا الجدلُ حولَ الفصلِ بينَ الفنّ والفنّان ليس جديداً، فلطالما شغلَ الرأيَ العامّ في مختلف المجالات الفنيةٍ، من الأدب إلى الموسيقى والسينما. وغالباً ما تعودُ شرارةُ النقاش للاشتعال معَ كلّ فضيحةٍ أخلاقية تطاولُ مبدعاً معروفاً أساءَ إلى تاريخهِ الفنّي بفعلٍ مشين، لتتباينَ الآراء بين من يدعو إلى إدانةِ الفنّانِ وفنّهِ بالمقاطعة وإنكارِ موهبتهِ والتعتيم عليها، وبينَ من يطالبُ بتقديرِ الفنّ نفسهِ والنظرِ إلى الفنّانِ كما لو كان مجرّد أداةٍ منتجة للإبداع.
فلا يذكرُ التاريخُ مثلاً الشاعر الفرنسي رامبو من دون أن تُذكرَ رحلاته إلى الشرق وتجارته بالأسلحة وذهاب البعض إلى اتهامه بالإتجار بالبشر. أمّا الماركيز دو ساد، فقد ارتبطت فضائحه الأدبية بفضائحه الشخصية، إذ سُجِنَ بسبب ممارساتهِ العنيفة ضدّ النساء. واحتار الباحثون في تناول أعماله: هل تُقرأ كنصوصٍ أدبية أم كهلوسات مضطربة تشجّعُ على الانحراف؟ بخاصة وقد صار إسمه مرجعاً في علمِ النفسِ لمصطلح "السادية".
وفي مجال السينما، أدينَ المخرج رومان بولانسكي باغتصابِ طفلةٍ، ومع ذلك نال جائزة الأوسكار عن فيلم The pianist رغم ثبوتِ التهمةِ عليه وهروبه من العدالة. كما أوقفت شبكة "نتفليكس" إنتاج الموسمِ السادس من مسلسل House of Card بعد اتهاماتٍ متكرّرة بالتحرش طاولت الممثّل الموهوب كيفن سبايسي.
بالعودةِ إلى الشاب مامي، فقد ظنّ جمهورهُ أنّ مسيرتهُ الفنية انتهت حين سجنَ على خلفيةِ قضية إجهاض قسري تعودُ إلى صيف 2005، بعد أن رفضت صديقته الصحافية الفرنسية إسقاط الجنين، اتفق مامي مع شركائهِ على خطفها، وتخديرها والاعتداء عليها في محاولةٍ للإجهاض، قبل أن يعترفَ بذنبه ويقضي سنتين من عقوبتهِ في السجن. ومع إعلانِه العودة عبر جولةٍ فنية، عادَ الجدلُ إلى الواجهة، بين من يرى أنّه ارتكبَ خطأ ودفعَ ثمنه، ويستحق فرصةً ثانية ما دام قد أبدى ندمه وأظهر تغيّراً في سلوكه ولم يؤذ شخصاً آخر، ومن اعتبر أنّ ما قام به جريمة لا تغتفر إذ حدثت عن سبق إصرارٍ وترصّد، وتختلفُ عمّا يمكن للإنسان أن ينزلق إليه في لحظات الانفعالِ أو انفلاتٍ للوعي. وهو ما دفع ناشطات تونسيات إلى المطالبة بمقاطعةِ حفلاتهِ لأنّ أيّ دعمٍ له يمثّل تطبيعاً مع العنف ضدّ النساء وتشجيعاً على الإفلات من العقاب.
عودة الشاب مامي إلى عاصمةِ الراي
الغناء على مسرحِ وهران، لا يشبهُ الغناءَ على أيّ مسرحٍ آخر، حينما يتعلّق الأمر بفنّ الراي، فهي المدينة التي انطلق منها هذا اللون الموسيقي إلى العالم، وقدّمت أهمّ المغنين الذين ارتبطت أسماؤهم بـ"ديسكو مغرب"، شركة الإنتاج التي أغلقت لاحقاً وتحوّلت اليوم إلى موقعٍ سياحي في وسط المدينة، يلتقط الزوار صوراً لهم عندَ بابه المعدني المغلق. تتميز أغاني الراي بكلماتها المستمّدة من لهجةِ وهران ومدن الغربِ، فاللهجات في الجزائر تختلف في مفرداتها وإيقاعها من منطقة إلى أخرى، فتقال كلمة نبغيك بدلاً من نحبك، وكلمة الشابة التي ردّدها الشاب خالد في أغنيته: "يا الشابة بنت بلادي" لا تعني اليافعة ولكنّها تعني الجميلة. لذلك كان وقوف الشاب مامي على مسرح وهران أكثر من مجرد حفل عابر، بل عودة إلى عاصمةِ فنّه والمدينة التي احتضنت موهبته وانطلق منها ليغنّي أجمل أغانيه مثل: "أدُّوها عليا"، "تزعزع خاطري"، "بكاتني كي بكات قبالي"، "انتِي ضرّي وانتي الدوا"، قبلَ أن يُعرفَ عالمياً عبر تجارب ثنائية ناجحة مع ستينغ وزوكيرو وسميرة سعيد وغيرهما.
في ليلة الجمعة 22آب/أغسطس، انتظرَ المئات صعود الشاب مامي إلى منصة الميريديان، حيث افتتح الحفل بأغنيتهِ الشهيرة "Au Pays Des Merveilles" وسط الهتافات والزغاريد، ثم واصل الغناء وسط تفاعلٍ جماهيري لافت. في تلك اللحظة، سكت الجدالُ الطويل عن الأخلاقيات والخطايا وغفرانها، ولم يعلُ سوى صوتُ الموسيقى، يرافقه الشاب مامي الذي لم يتغيّر صوته مع التقدّم في العمر. وبقي صوته نقياً، متمكّناً، فبدا كما لو كان آتياً من أغنيةٍ مسجّلة في استديو تُبّث عبر اليوتيوب وليس في قاعة تضجّ بالجمهور وأصواته. فهل يحقُ للمُنصتِ أن ينغمسَ في جمال الصوت ويستمتع بالفنّ من دونَ أن يُنصِّبَ نفسهُ قاضياً على صاحبه؟ وهل يمكن للموسيقى أن تمحو ذاكرةَ الجريمة؟