رحيل صنع الله إبراهيم... الكتابة مقاومة واحتجاج ضدّ الأنظمة السّلطوية

أتذكر، خلال محاولتي الأولى قبل سنوات إجراء حوار مع الكاتب صنع الله إبراهيم، أنني واجهت صعوبة في الوصول إليه؛ فهو لا يمتلك هاتفاً محمولاً، ورقم هاتفه المنزلي غير معروف، لتسنح لي فرصة لقاء هذا الرجل صاحب الجسد النحيل والعقل المتقد، والزهد الممزوج بترفع نبيل.
لقد بلغ به الاستغناء حد العزوف عن استخدام الهاتف المحمول، وكأنه اختار طواعية العزلة والابتعاد عن الحداثة، لكنه بدد حيرتي آنذاك، بقوله: "لا أمارس عملًا يستدعي اتصالاً يومياً أو دائماً بالناس، فلست طبيباً ولا معلماً أو مهندساً أو قاضياً، فالهاتف المنزلي يكفيني".
بعد معاناة مرضية استمرت لسنوات، رحل اليوم في القاهرة صنع الله إبراهيم (88 عاماً)، لتفقد الثقافة العربية صوتاً حراً، عُد أحد أهم كتاب الوطن العربي عبر تاريخ زاخر بالكتابة والنضال والمواقف السياسية المنحازة إلى الجماهير وحقوقها الاجتماعية، إذ عاش مهموماً بالمهمشين والطبقة الوسطى، وعبّر عن تطلعاتها وتحولاتها وانكساراتها عبر قلمه؛ لذا لا يمكن تصنيفه روائياً تقليدياً بل مؤرخاً للواقع السياسي وراصداً للتحولات السياسية والمجتمعية على مدار عصور.
حكايات الوالد وتفتّح الذهن
نشأ صنع الله في أسرة من الطبقة الوسطى؛ والده موظف حكومي، ووالدته ممرضة من خلفية اجتماعية متواضعة. هذه الثنائية شكلت لاحقاً ملامح كتابته، وكان منذ طفولته دائم المجالسة لوالده الذي تجاوز عمره الستين، وقال لي إنه اعتبر والده بمثابة الجد وليس الوالد بما تتضمنه هذه العلاقة من حميمية. إذ عاش في أجواء مشبعة بحكايات والده عن ثورة 1919 والاحتلال الإنكليزي وما صاحبه من قهر وفقر وطبقية، رغم أن والده كان بعيداً عن النشاط السياسي. لكن هذه الحكايات تراكمت في ذهنه، إلى جانب انضمامه لاحقاً إلى تنظيم "حدتو" أثناء دراسته الحقوق، عمّقت اهتمامه بالقضايا السياسية والاجتماعية، ورسخت في داخله نزعة نحو العدالة الاجتماعية منذ المراهقة، وألقت بأثرها وظلالها على شخصيته".
مانشيتات الصحف بطلاً روائياً
عاش صنع الله إبراهيم في بيت تسكنه الكتب وقصاصات الصحف، إذ حلت تحولات جمة في شكل الرواية وبنيتها في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وانتقلت فكرة التجريب، ما شجعه على الاعتماد على مانشيتات الجرائد والمواد الصحافية في رواياته، واعترف لي خلال حديثي معه بأنه كدس كميات ضخمة من الجرائد في منزله، ما أجّج الخلاف مع زوجته، لدرجة أوشك معها على الطلاق، لأن الصحف أضحت أكواماً منتشرة في أرجاء البيت، ولذا قرر التخلص منها والاكتفاء بجمع القصاصات وفهرستها إلى ملفات.
وجاءت رواية "ذات" عام 1992، لتحسم مصير تلك القصاصات والعناوين الصحافية التي استخدمها، ليس فقط كخلفية للقصة، بل هي القصة نفسها سارداً من خلالها حكايات المجتمع الواقعية.
وتوالى استخدامه لتلك القصاصات ضمن رواياته، التي جنح فيها إلى استخدام "الكولاج الروائي"، وهو نوع صعب في الكتابة يتطلب جهداً وتركيزاً وإحكام الحبكة كي لا يصاب القارئ بالتيه أو الملل، مستخدماً القصاصات الصحافية للإشارة إلى الأحداث السياسية والاجتماعية في أعماله ليمنحها واقعية، وإبراز التناقضات أحياناً.
المعارض دائماً
عرف صنع الله إبراهيم بتمرده، فلم يهادن أي نظام سياسي، وحافظ على استقلاليته، حتى أنه رفض جائزة الدولة التقديرية خلال عهد الرئيس مبارك، معتبراً أن الدولة التي تمنحها "تفتقد المصداقية".
إذ آمن صنع الله بأن المثقف هو الشخص الذي يفترض أن يمتلك درجة مرتفعة من الإدراك للأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية، فهو كان يرى أن السلطة تصاب بالعمى ولا ترى الأخطاء التي ترتكبها والأوضاع الصعبة التي يعيشها الشعب؛ فتحتاج إلى من ينتقدها ويلفت انتباهها ويعارضها، وهذا يُفترض هو دور المثقف.
واعتبر أن احتفاظه بمسافة مع السلطة يمنحه قدراً من الحرية في الحياة والتفكير، وعدم الخضوع إلى أي جهة، مؤمناً بفكرة الاستغناء عن الأشياء ما لم تكن ذات ضرورة حيوية، كما عزف عن تقلد أي منصب، إذ اعتقد أنه لا يملك إمكانات تؤهله للوفاء بمهمات منصب إداري أو حكومي بل اعتبره إعاقة عن الإبداع.
صنع الله وعبد الناصر... ميراث من المرارة والتقدير
اعتقل في عمر الثانية والعشرين من عمره، وتعتبر سنوات السجن، رغم ثقلها، فترة ثرية في حياة الروائي اليساري، وبمثابة جامعة تخرّج فيها، إذ انشغل فيها بقراءة مختلف الكتب التي كانت ممنوعة في السجن وتهرّب خلسة إلى داخله، كما أتاحت له تجربة الاعتقال الاقتراب من شرائح مختلفة من البشر، ما شكّل خلفيته وشخصيته، وهناك قرر أن يكون كاتباً.
جاء الاعتقال في عهد عبد الناصر ضمن حملة ضد اليسار، ما ترك في نفسه مرارة انعكست في روايته "1970". ورغم ذلك، ظل يدافع عن عبد الناصر، ما طرح سؤالاً: كيف تدافع عمن سجنك؟ وهو ما برره بأنه "تقدير لتطابق أفكاره مع أهداف عبد الناصر في التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية وإلغاء الفوارق الطبقية والوحدة العربية ومحاربة الاستعمار والرجعية، وما قام به من إنجازات تتجاوز ما طالبوا به". ويعتبر صنع الله أن الخلاف كان حول انفراد عبد الناصر بالسلطة، وهو أمر ارتبط بظروف تلك الحقبة والاتجاه العالمي وقتها لفكرة "الفرد البطل".
من الصحافة إلى الرواية
ولد صنع الله في القاهرة عام 1937، وبدأ حياته في العمل في الصحافة في وكالة أنباء الشرق الأوسط بعد خروجه من السجن، ثم انتقل إلى برلين حيث عمل في وكالة ألمانيا الشرقية، ثم عاش 3 سنوات في موسكو لدراسة السينما، ليعود للقاهرة عام 1974، وبدأ اهتمامه بالكتابة عبر الصحافة، إذ كان مغرماً بقراءة الصحف، لكنه لاحقاً رأى أن الصحافة مثيرة لكنها تظل محدودة بينما الكتابة الأدبية والروائية لا حدود لها ويمكن أن يقول من خلالها كل ما يريد.
ركزت أعماله على نقد الأنظمة السلطوية، وامتلك القدرة على رصد التحولات الكبرى، فيما عايش عبر عقود طويلة التغيرات والتقلبات التي شهدتها مصر والمنطقة العربية، فضلاً عن اطلاعه على أهم الأحداث والتطورات دولياً، فهو شاهد على عصور ممتدة وسجلها بقلمه في روايات مثل "بيروت بيروت" التي رصد فيها الحرب الأهلية اللبنانية، ورواية "اللجنة" التي انتقد فيها سياسة الانفتاح التي سنّها الرئيس السادات، وتناول تجرته في الاعتقال في مجموعته القصصية "تلك الرائحة" و"يوميات الواحات"، فيما تناولت رواية "وردة" الثورة الظفارية في عُمان، ورصد في رواية "الجليد" فترة وجوده في روسيا وتجربة النظام الشيوعي ثم سقوط الاتحاد السوفياتي، أما في "برلين 69" فاستعرض أوضاع العرب وتجربة النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية.