ثقافة 28-07-2025 | 10:13

من كاسيت المدينة الجامعية في دمشق إلى ذاكرة وطن: زياد لا يرحل

"نحن الجيل الذي ربّانا، وبذلك سيكون فينا ذِكره مؤبَّداً".
من كاسيت المدينة الجامعية في دمشق إلى ذاكرة وطن: زياد لا يرحل
زياد الرحباني. (أ ف ب)
Smaller Bigger

في لحظة صامتة، توقفت الموسيقى داخلي، كأن أحدهم ضغط على زر “إيقاف موقت” في قلب الروح. لم يكن مجرد فنان يرحل، بل عصر كامل يطوي جناحه الأخير. ذلك الصوت الذي لطالما سخر من العالم بعبقرية، وبكى الناس بتهكم، وصافحهم بجرأة الأغنية، انسحب بهدوء، كعادته، تاركاً خلفه ضجيج المعنى.

زياد الرحباني، ابن البيت الرحاباني، لكنه لم يكن نسخة عنهم بتمرّده الأجمل. حمل أوجاع الناس كما لو كانت نوتات موسيقية، وعجن السياسة بالفكاهة، والمسرح بالمقهى، والثورة بالحب، ونسج منها أغنية لا نزال نحفظها عن ظهر قلب، من دون أن نعرف كيف صارت جزءاً من تكويننا الثقافي والوجداني.
من بيروت إلى دمشق، من النكتة إلى البيان، من "سهرية" إلى "شي فاشل"، زياد لم يكن يكتب فقط، بل كان يعيد توزيع وعينا.
هنا شهادات لفنانين وكتاب ومثقفين سوريين/سوريات عبرت عن وقع هذا الغياب، وعن الأثر الذي تركه زياد الرحباني في الوجدان الجمعي.

زياد الرحباني... هوية لا تُهزم 
قال المخرج السينمائي السوري جود سعيد لـ"النهار" إن زياد الرحباني كان دائمًا يربك محيطه، حتى في ما وصفها بأنها "رحلته ما قبل الأخيرة"، مشيرًا إلى أن حضوره العاطفي والفكري سيظل قائمًا "حتى نرحل جميعًا، ولا يبقى من يحبّ الحبّ والأرض والحقّ".
وأوضح سعيد أن زياد مثّل لجيله "جزءًا أصيلاً من هوية رافضة، حرة، مقاومة، لا تُباع ولا تُشترى، حتى وإن هُزمت"، مؤكدًا أن هذه الهوية نمت وتطورت داخلهم، رافضة للطائفية، ومتوّجسة من كل سردية غربية، حتى في السينما الأميركية "طالت أم قصرت".
وأضاف أن هوية زياد الساخرة من الهزائم، والثابتة على الحرية الحقيقية، كانت "معادية لليبرالية المتوحشة"، و"عابثة بالمحظورات البالية"، معتبراً أن نتاجه الفني أشبه بـ"قصيدة كتبها كل من أحب الحياة، ودافع عن الأرض والحق".

 

زياد الرحباني. (أ ف ب)
زياد الرحباني. (أ ف ب)

 

من الحلم إلى المسرح: زياد الذي لا يُمحى
وقالت المغنية السورية الأستاذة في المعهد العالي للموسيقى ليندا بيطار لـ"النهار": "أنا إبنة قرية البيضا، تلك القرية الجميلة التي كانت صباحاتها لا تكتمل من دون صوت السيدة فيروز، وأغاني عمالقة الفن الذين شكّلوا وجداننا، وفي طليعتهم الأستاذ زياد الرحباني. تأثرنا بفنه العميق حتى أصبح جزءًا من حياتنا اليومية، نحفظ موسيقاه، ونتتبع كلماته في كل مقابلة، كما هي حال كثير من السوريين الذين لطالما كانت له مكانة كبيرة في قلوبهم".
وتابعت: "خصوصية الراحل زياد الرحباني تكمن في أنه استطاع أن يفرض فكره وثقافته وجدانيًا على أجيال، وهو أمر لم يحققه غيره. كانت كل قطعة موسيقية – حتى من دون غناء – تُحدث فينا أثرًا بالغًا، ونادرًا ما نجد اليوم من يستطيع أن يصل إلى هذا العمق والتأثير".
 وتطرقت إلى تجربتها الفنية مع الراحل: "بدأت مسيرتي كمغنية صاحبة شغف وموهبة، وكان حلمي أن ألتحق بالمعهد العالي للفنون الموسيقية، وأن أقف يومًا ما إلى جانب الأستاذ زياد على خشبة المسرح. تحقق هذا الحلم، وغنيت في حفلاته، وكان شرفًا عظيمًا لي أن أكون جزءًا، ولو صغيرًا، من عالمه الموسيقي الفريد، تعرّفت إليه عن قرب لاحقًا، واكتشفت إنسانًا يتميز بعمق الفكر وبساطة التعبير وصدق الموقف. عندها فهمت لماذا يحبه الناس بهذه الطريقة، ولماذا ينتظرون كلماته دائمًا بشغف. فشخص مثله لا يموت فعلاً، ولا يُمحى من ذاكرة الناس، لأن فنه خالد، يورَّث من جيل إلى آخر".
وختمت: "نحن اليوم في أمسّ الحاجة لفكر  زياد، ولصوته المختلف، ولرؤيته التي تتجاوز حدود الموسيقى إلى الوعي السياسي والحياتي. سيبقى ما تركه لنا مرجعًا فنيًا وثقافيًا. أما على المستوى الشخصي، فقد كانت السنوات الثلاث التي عملت فيها معه من أهم محطات حياتي الفنية، وجزءًا لا يُمحى من ذاكرتي. زياد لا يُشبه أحدًا، ولا يغيب. ويقع على عاتقنا أن نُعلّم أبناءنا ما قدّمه من إرث غنيّ، يحمل من القيم والجمال والمعرفة ما يكفي ليبقى حيًا فينا جميعًا. السلام لروحك، أستاذ زياد".

رفاهية ثورية ونافذة على الحرية: زمن زياد آتٍ
وقال الكاتب والناقد المسرحي السوري سامر محمد إسماعيل لـ"النهار": "كان علينا أن ننتظر أربعين عاماً حتى نعيش هذه الأغنية بعد أن كنا هنا في سوريا نسمعها ونغنيها في سهراتنا كـ (رفاهية ثورية)! أقصد أغنية "يا نور عيني رحنا ضحية الحركة الثورية".

وتابع: "تنسحب أغاني زياد الرحباني بقوة على حطام الطبقة الوسطى في سوريا، والتي وجدت في مسرحياته وأغانيه وموسيقاه نافذة على حرية تعبير مستلبة أيام النظام البائد، وها هي اليوم تعلن الحداد على عصر رائع مضى. عصر كان زياد الرحباني أبرز تجلياته في تحويل الأغنية من سجع وطباق ولازمة إلى أداة تغيير في التلقي".
ورأى إسماعيل أن زياد "غيّر عادات التلقي للأذن العربية، ومرر موسيقاه بذريعة الأغنية، ولو أن الأغاني التي مررها أيضاً كانت ذريعة لتمرير الأفكار وخلخلة السائد الأعراف الفنية. لقد مر زياد بيننا كمذنب هالي. كل سبعين سنة مرة . مر بكامل حرارته وصدقه الفني الذي لا يُرد".
فـ"زمن زياد" بالنسبة إلى إسماعيل:" آتِ. ربما ليس الآن في ظلال القبيلة والعرف، بل في زمن المدينة وقيمها. زمن تكون فيه حفلات المسرح والسينما والموسيقى أكبر من جماهير أيام الجُمع والآحاد".

الجيل الذي لا ينساه
الصحافي والمذيع السوري أمجد طعمة قال لـ"النهار": "أبانا الذي نشأ جيلُنا على فِكره، إنه زياد الرحباني الذي من المؤكد أن رحيله لن يكون سهلاً بالنسبة إلينا نحن الجيل الذي تعرفنا إليه في مرحلة تشكُّل الوعي الأول، يوم كان المراهق فينا يتمرد على أي شيء وكل شيء، فوجدنا في زياد مخرجنا ولسان حالنا".
 وتحدث عن أثر الراحل في جيل الشباب السوري: "في سوريا كنّا نسمع بعض ما يقول سراً، خصوصاً مع جان شمعون في "قولوا الله بعدنا طيبين"، يومَ حكى عن نهر الكلب ونبوخذ نصّر، ثم حافظ الأسد. في المدينة الجامعية، كانت مسرحياته تبقى طوال الليل مسموعة من غرفتِنا، لأننا اعتدنا أن ننام والكاسيت يحكي، من "سهرية" حتى "شيء فاشل"، كل ليلة الحكاية نفسها".
وأكد أهمية هذا الأثر بالقول:" شكّلنا جيشاً من "الزياديين"، عملنا مسرحًا فكان فيه منه شيء، حتى اللهجة وتقطيع الكلام صارا يشبهانه. وعرفنا أسماء الأحياء والمناطق في لبنان وأحببناها بسببه. مشروع تخرّجي الأول في قسم الصحافة في الجامعة كان عنه".

وختم بالحديث عن لقائه الراحل واستضافته بالقول: "أهم ما حصلت عليه في برنامجي التلفزيوني جيلنا، كان حلقة عنه، فيها حوار قصير معه قبل بروفة حفلة القلعة، يوم جاء لكي يُسمِع السوريين موسيقاه وأغانيه، فتفاجأ أنهم حفظوها، فقال لهم : "بدل ما نسمّعكن، صرنا نسمعلكن".
وختم قائلاً: "لا أظن أن الحياة ستعطينا مهلة لنعرف عبقرياً مثله، نحن الجيل الذي ربّانا، وبذلك سيكون فينا ذِكره مؤبَّداً".

رحل زياد الرحباني جسدًا، لكن أثره باقٍ في وجدان من ردّد كلماته، وتمرّد على الواقع من خلال أغانيه، وقرأ السياسة عبر مسرحه، وتعلّم الحنين من نبرته الساخرة.
هو لم يكن صوتًا موسيقيًا فقط، بل بنية فكرية عميقة عبّرت عن هموم الناس بلغتهم اليومية، وجعلت من الفن أداة مقاومة، ومن النكتة موقفًا، ومن الحب مشروعًا سياسيًا مؤجلًا.
زياد لا يغيب… لأنه غيّرنا.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟