الشيخ إمام في ذكراه الثلاثين... ثائر بالصدفة!

لم يخطط الشيخ إمام - الذي تمر ذكراه الثلاثين هذه الأيام - أن يحفظ القرآن الكريم ولا أن يصبح موسيقيًا ولا مغنيًا ولا من مشاهير المعتقلين السياسيين، وإنما كانت الأقدار تسوقه من فخ إلى فخ.
طفل صغير اسمه إمام محمد عيسى ولد في صيف 1918 لأسرة فقيرة في قرية "أبو النمرس" في الجيزة، أصيب بالرمد في سنته الأولى وبسبب علاج شعبي خاطئ فقد بصره، فاكتسب حساسية خاصة في علاقته مع الحياة، وسمع أمه تُعاير بأنه "كفيف"!
تكسب بالتلاوة
جرت العادة أن ينذر الصغار الأكفاء لحفظ القرآن الكريم وتلاوته، لضمان لقمة العيش والتكسب بالتلاوة في المآتم والجنازات. أي أن صدفة العمى قادته إلى الالتحاق بالجمعية الشرعية وحفظ القرآن الكريم ودراسة قراءاته المختلفة. كانت الأمور تسير كيفما خطط والده الصارم، إلا أن الصبي كان متمردًا ينصت بقلبه إلى الأهازيج وأغاني النساء في الأفراح ومواسم الحج، بل وتجرأ على سماع تلاوة الشيخ رفعت في الراديو، والجمعية كانت تحرّم الراديو!
لم يرتكب جريمة كبرى لكنهم فصلوه، وخشي من غضبة والده، فذهب إلى أقارب له للعيش قرب سيدنا الحسين والأزهر الشريف، ما يوفر له فضاء أكثر حرية لسماع التواشيح والإنشاد، ليصبح قارئًا ومنشدًا هاويًا. آنذاك أتى إليه والده وانتهى اللقاء بقطيعة معه ومع قريته إلى الأبد، خصوصًا بعد وفاة والدته.
حتى هذه اللحظة لم تكن لدى الشيخ إمام خطط للمستقبل، ولا ميول فنية جارفة، إلى أن استقر في "حوش قدم" في الغورية، حي شعبي مغرق في القدم يعد جزءًا من القاهرة الفاطمية.
رفقة الشيخ الحريري
بعد صدفة العمى، وصدفة حفظ القرآن الكريم، وصدفة الفصل من الجمعية الشرعية، وصدفة الفرار إلى أقاربه في الغورية، حدثت صدفة غيرت مسار حياته إلى الأبد، حين التقى الشيخ درويش الحريري أحد أعلام الموسيقى العربية ومعلميها الكبار.
تتلمذ على يديه وصحبه في مجالسه، وتعرف على أحد تلاميذه الكبار وهو الشيخ زكريا أحمد. فأصبح الشيخ إمام وقبل أن يبلغ العشرين بمثابة المرآة الخاصة بالشيخ زكريا يسمع منه الألحان ويدققها، ويراجعه إذا نسي شيئًا. وتحسنت حياته نسبيًا، إلى أن اتهم بتسريب ألحان الشيخ زكريا لأم كلثوم قبل أن تغنيها، فانقطعت العلاقة بينهما.
حتى تلك اللحظة لم يكن الشيخ إمام يتقن العزف على آلة العود. يملك الأذن الموسيقية، والذاكرة الحافظة، وشعر أنه لو أتقن الضرب على أوتار العود لنافس أستاذه الشيخ زكريا نفسه، لذلك استعان بصديقه كامل الحمصاني لتدريبه.
كان ينسلخ شيئًا فشيئًا عن تكوينه الديني، فخلع جلبابه الأزهري وارتدي ملابس عصرية، وحاول تأليف كلمات كي يلحنها ويغنيها.مع ذلك لم يحقق أي نجاح يذكر.
لقاء نجم
عندما يقترب المرء من الخامسة والأربعين، يبدأ العد التنازلي لرحلته، لكن الشيخ إمام لم يفقد الأمل أن يصبح ملحنًا ومغنيًا.
ثم وقعت أكبر صدفة في تاريخه، واحدة من أجمل مصادفات تاريخ الغناء، فالموسيقي العائش في الظل في حي شعبي عتيق، فوجئ بالكاتب والمخرج سعد الموجي يزروه برفقة شاعر تجاوز الثلاثين بشعر منكوش اسمه أحمد فؤاد نجم كان يعيش في حي شعبي آخر هو بولاق الدكرور.
انجذب الاثنان إلى بعضهما البعض سريعًا، لكثرة المشتركات الثقافية والنفسية، كلاهما ينتمي إلى جذور ريفية، وثقافة دينية متشابهة، واليتم والفقر، وحب الموسيقى والطرب. الفارق الوحيد أن الفاجومي - لقب نجم - كان أكثر احتكاكًا باليسار المصري وشارك في مظاهرات وتعرض للسجن، واطلع على الأدب الروسي، فكان أكثر غضبًا، وأصدر بالفعل ديوانه "صور من الحياة والسجن".
كانت تجربتهما العميقة في الحياة، أكثر أهمية من ثقافة الكتب والقراءة، واستغرب نجم الذي انتقل للعيش مع الشيخ إمام في حوش قدم أن رفيقه لم يقدم نفسه كملحن ومطرب حقيقي، فأعطاه أشعاره.
في السنوات الخمس الأولى للثنائي الشهير، لم يحدث تصادم حقيقي مع السلطة، بل نجح الشيخ إمام أن يصبح له برنامجًا في الراديو يقدم فيه بعض الألحان.
كانا يحاولان تقديم تجربة أكثر شعبية وأقرب في روحها إلى الهامش وليس إلى السائد الرسمي، إلى أن وقعت النكسة التي أثارت غضب الجميع، وسمح عبد الناصر نفسه ـ جزئيًاـ بأن يعبر الناس عن غضبهم، وانخرط الغناء الرسمي كله من أم كلثوم وعبد الوهاب والسنباطي وعبد الحليم وصلاح جاهين والأبنودي، في التحفيز للصمود وتحرير الأرض. لكن فجأة خرج نجم والشيخ إمام بهجائية لاذعة تقول ما لم يجرؤ الجميع على قوله، وتحمل عبد الناصر نفسه مسؤولية النكسة وترمز إليه باسم عبد الجبار: " اشعار تمجد وتماين.. حتى الخاين..وان شا الله يخربها مداين..عبد الجبار"!
لم يتفهم عبد الناصر نعته بالخيانة، واتهامه بالخراب. كانت الأغنية ترسخ جراحه للأبد، وتذكره بكابوس النكسة، فأمر بسجن الاثنين إلى الأبد.
لم يكن نجم أول شاعر يُسجن لموقف سياسي، لكن الشيخ إمام هو أول موسيقي يوضع خلف القضبان عقابًا له على ألحانه.
عقب النكسة كان اليسار المصري منقسمًا على نفسه، فالبعض تحالف مع عبد الناصر واصطف خلفه في حرب الاستنزاف، والبعض الآخر استمر في إعلان غضبه وتحريك المظاهرات التي تطالب بالحرب والتحرير واستمر الوضع هكذا في عصر السادات.
اندمج نجم وإمام أكثر في نوبات الغضب والتعليق السياسي على كافة الأحداث بواسطة الغناء، ربما كان نجم ثائرًا منذ البداية، وإنما الشيخ إمام تورط في سياق الغضب.
لم تخل تلك المرحلة من كر وفر، وإجراءات قمعية كالاعتقال والمنع من السفر، مع ذلك قدم الاثنان أهم وأشهر الأغاني الثورية مثل "رجعوا التلامذة" و"مصر يا أمه يا بهية" التي اختارها يوسف شاهين لفيلمه "العصفور" وإن كان الفيلم نفسه منعته الرقابة لسنوات ولم يُعرض إلا بعد حرب أكتوبر. كما قدما أيضًا أغاني ساخرة من زعماء زاروا مصر مثل "شرفت يا نيكسون بابا.. يا بتاع الووتر غيت.. عملوا لك قيمة وسيما.. سلاطين الفول والزيت"، وأغنية: "فاليري جيسكار ديستان.. والست بتاعه كمان.. حيجيب الديب من ديله.. ويشبع كل جعان.. يا سلاملم يا جدعان..ع الناس الجنتلمان"، إضافة إلى "هم مين وإحنا مين" ردًا على ما أسماه السادات "انتفاضة الحرامية"، و"موال الفول واللحمة" و"يا فلسطينية" و"بقرة حاحا" و"غيفارا مات" و"شيد قصورك".
بمرور الوقت التفت أجانب وعرب لتلك الحالة الفنية الثورية، فمثلًا تبنى مثقفو تونس تجربة الثنائي ونسخوا ووزعوا أغانيهما ـ أكثر من مصر ـ ودعي نجم والشيخ إمام إلى حفلات في أوروبا والجزائر، وأصبحت أغانيهما جزءًا أساسيًا في النضال العربي الفلسطيني، والاحتجاجات السياسية، بما في ذلك ثورة يناير في مصر التي رفعت منذ اللحظة الأولى شعار "الورد اللي فتح في جنانين مصر" استلهامًا من أغنية للاثنين، كما اعتمدت أغنية أخرى للشيخ إمام هي "يا مصر قومي وشدي الحيل" من كلمات نجيب شهاب الدين.
نجحت التجربة لأنها اعتمدت على شعر عفوي وطازج، لا يخلو من السجع والسخرية المريرة والقسوة والمفارقات، وقول المسكوت عنه سياسيًا بلا مواربة.
بينما عبرت ألحان الشيخ إمام عن روح مصرية خالصة تمزج الحس الشعبي بالروح الدينية والصوفية، والجملة اللحنية البسيطة بلا بهرجة أو توزيع أوركسترالي، فهو يكتفي بالغناء والعزف على العود بصبحة محمد علي "الإيقاع"، وكثيرًا ما يكون نجم هو الكورال أو بعض الأصدقاء غير المحترفين.
موجة غضب عالمي
منذ البداية تزامن غضب نجم والشيخ إمام مع ثورات الشباب في أوروبا أواخر ستينيات القرن الماضي، وأفكار ما بعد الحداثة التي تشكك في الروايات الرسمية والتقاليد المتعارف عليها، لمصلحة الغناء التهكمي الذي لا يخلو من السباب والشتائم والسخرية.
وبرغم طغيان السياسي لكن التجربة لم تفقد قوتها الإبداعية واتساعها لتشمل حالات متنوعة مثل "واه يا عبد الودود" فهي قصة إنسانية لجندي في الحرب بعيدًا عن الهجائية اللاذعة، و"يا حبايبنا..فين وحشتونا" وهي لا تخلو من حس رومانسي يرتبط بقصة حب عاشها الشيخ إمام لكن الاعتقال أبعده عن حبيبته، و"الله حي" التي تستلهم أجواء الموالد وحلقات الذكر.
في السنوات العشر الأخيرة من حياة الشيخ إمام، دب الخلاف بينه وبين نجم، وكان إفساد الصداقة بينهما حلًا أسهل من سجنهما.
أسباب الشقاق متعددة، منها القول بأن الشيخ إمام وهو رجل منضبط لم يعد يتحمل فوضى نجم وعدم التزامه خلال رحلاتهما الفنية، ومنها تبرم نجم من تعاون الشيخ إمام مع شعراء منافسين له، كما نقل البعض لنجم كلامًا مسيئًا صدر بحقه من الشيخ إمام.
أيًا كان السبب، انتهت واحدة من أهم ظواهر الغناء العربي، رغم نجاح البعض في عقد صلح بينهما قبيل رحيل الشيخ إمام الذي مال إلى العزلة بعدما تجاوز السبعين، ومات وحيدًا فقيرًا في حزيران (يونيو) عام 1995، مثلما بدأ وحيدًا فقيرًا في الغرفة ذاتها.
فنان الشعب
إجمالًا حافظت التجربة على بساطتها وطزاجتها، وعفوية وسرعة تعبيرها عما يجري في الواقع، وانحيازها للبسطاء والمهمشين ضد السلطة وضد صيغ الغناء الرسمي.
ولم يحقق الشيخ إمام رخاء ماديًا ولا أسس بيتًا، لكنه ـ بمرور الزمن ـ فرض نفسه في تاريخ الأغنية الثورية، وحين نشر نعيه حمل لقب "فنان الشعب"، وشارك في النعي مثقفون وفنانون وشخصيات عامة من اتجاهات مختلفة منهم: خالد محيي الدين مؤسس حزب التجمع وأحد الضباط الأحرار، أحمد فؤاد نجم، يوسف شاهين، عادل إمام، صنع الله إبراهيم، محمود أمين العام، ولطيفة الزيات.
كانت تلويحة احترام ومحبة لفنان كبير ساقته الأقدار لتطفو أغانيه فوق موجات الغضب العربي.