150 عاماً من العلم والتأثير: الجامعة اليسوعية ودورها في المشهد الثقافي اللبناني

منذ تأسيسها قبل 150 عاماً، شكّلت جامعة القديس يوسف في بيروت ركناً أساسياً للمشهد الثقافي اللبناني، لاضطلاعها بدور محوري في التعليم الجامعي وفي مجالات علم الآثار، والتصوير الفوتوغرافي، والدراسات الشرقية، وترسيخ الهوية اللبنانية. تميّزت الجامعة بريادتها في البحث الأكاديمي، واحتضانها لأرشيف وثائقي فوتوغرافي غني، إلى جانب دورها في إعداد النخبة الفكرية والأدبية والإعلامية التي أثرت الحياة الثقافية والسياسية في لبنان.
لم يقتصر تأثيرها على الثقافة فحسب، بل تعدّى ذلك إلى السياسة، إذ أسهمت في تكوين رؤية وطنية، خاصة في مرحلة استقلال لبنان، وعززت من مفهوم المقاومة الثقافية للحفاظ على سيادة الدولة. في العقود الأخيرة، واصلت الجامعة دورها الفاعل، فتبنّت خطاباً إصلاحياً يدعو إلى المحاسبة والشفافية، وساهمت في الحراك الاجتماعي والتوعوي، مؤكّدةً أنّ التعليم العالي لا ينفصل عن التغيير الاجتماعي.
بطاقة بريد تحمل صورة جامعة القديس يوسف في بيروت.
لعلّ أهم مساهمة لجامعة القديس يوسف هي تعزيز الثقافة اللبنانية التي تتمحور حول دستور الكيان اللبناني. منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر، نشر آباء يسوعيون أبحاثاً عن حدود لبنان الحالي، باعتباره متميزاً عن سوريا، "وقد افترض هذا الأمر استقلال لبنان الكبير، وكان هذا اليسوعي أو ذاك في باريس خلال مناقشات فرساي لدعم إنشاء مثل هذه الدولة"، يقول رئيس الجامعة البروفسور سليم دكّاش اليسوعي لـ"النهار"، "وأحد أبرز رموز لبنان الناشئ الذي صاغ أسس الدستور اللبناني في العام 1926 كان ميشال شيحا، خرّيج الجامعة اليسوعية التي دعمت إنشاء الدولة اللبنانية، سواء من خلال مطالب طلاب كلية الحقوق في العشرينيات أو من خلال تعيين خريجي جامعتنا على رأس إدارات الدولة الناشئة".
تشكيل النخبة الفكرية
كان لجامعة القديس يوسف دور محوري في تشكيل النخبة المثقفة اللبنانية منذ تأسيسها، إذ أنشأت كليات مبكرة مثل المدرسة الإكليريكية في غزير (1843) التي دربت رجال الدين بقيادة اليسوعيين الوافدين من أوروبا. تحوّلت لاحقاً إلى كلية اللاهوت والفلسفة في بيروت (1881)، ثم تأسّست كليات الطب والصيدلة (1883)، والحقوق والهندسة (1913)، ما ساهم في تخريج أجيال من الأطباء، المحامين، والمهندسين.
"كانت المكتبة الشرقية التابعة للجامعة المحور الذي التقى فيه العديد من المثقفين من لبنان والمناطق العربية والمستشرقين، الذين تميّزوا بعملهم للنهضة العربية"، وفق دكّاش. دُمّرت المكتبة مرتين خلال الحرب الأهلية، ثم بسبب انفجار مرفأ بيروت، قبل أن تعود إلى سابق عهدها، وتحتوي العشرات من أرشيفات الصور الفوتوغرافية من اليسوعيّين أولاً، كما أرشيف المصوّر اللبناني الأرمني الرائد فاروجان ومجموعة كاريكاتور ديران عجميان، بالإضافة إلى مجموعات أدبية مثل أرشيف إميلي نصر الله وغيرها من رجالات المسرح. يؤكّد دكّاش أنّ الجامعة "لم تتوقّف في عز الاضطرابات والأزمات عن متابعة رسالتها الثقافية"، واصفاً إيّاها بـ"رسالة مقاومة بالذاكرة الثقافية".
دور في المشهد السياسي اللبناني
أدّى الرئيس السابق للجامعة البروفيسور الأب سليم عبو اليسوعي دوراً حاسماً إلى جانب البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير في مقاومة الوصاية السورية في لبنان، ويعتبر دكّاش أنّ "إخلاصهما ساهم في زعزعة السيطرة السورية".
"آمن عبو بأنّه لم يكن بإمكان الجامعة أن تكتفي بأن تكون مجرّد مراقبة للأحداث"، يستذكر دكّاش، "بل كان عليها، وفقاً له، أن تؤدّي دوراً فعالاً من خلال المقاومة الثقافية، مدافعة عن قيم الحرية والعدالة. جاء موقفه ردّة فعل مؤصّلة في علاقة الجامعة الأصيلة بديمومة لبنان".
من مخطوطات المكتبة الشرقية.
تؤكّد جامعة القديس يوسف دورها كمؤسّسة مقاومة ثقافياً وسياسياً، ملتزمة بسيادة الدولة والحرية. منذ 12 عاماً، شدّد رئيسها على ضرورة التغيير السياسي والمحاسبة، منتقداً الفساد ومؤكداً الشفافية والإصلاح. دعمت الجامعة انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 من خلال التوعية وإصدار بيانات مشتركة مع الجامعة الأميركية في بيروت.
إلى جانب ذلك، عملت الجامعة على مشاريع طويلة الأمد مثل "مرصد الوظيفة العامة والحوكمة الرشيدة" الذي نظم ندوات حول الإدارة العامة، كما نظمت كلية الحقوق ومعهد العلوم السياسية مؤتمرات حول الأزمات اللبنانية. أُنشئت "أكاديمية التربية على المواطنة" وخرجت دفعتها الأولى، وساهم برنامج "الشباب من أجل الحوكمة" في إصلاح الإدارة العامة عبر مشاريع طلابية ناجحة.
يشدّد دكّاش على "دور الجامعة في تعليم الديموقراطية لطلابها"، مشيراً إلى إنشاء "مجلس عام للطلاب" منذ ثلاث سنوات يمثّل جميع الطلاب، "وأصبح هيكلاً للحوار والبناء المشترك لصالح المؤسسة ولصالح كلّ طالب". هذه الطريقة تؤكّد بالنسبة إليه "مقاومتنا الثقافية والسياسية، إذ تُعدّ الديموقراطية وممارستها عنصراً أساسياً فيها".
نهضة ثقافية
كان للرهبنة اليسوعية دور رئيسي في النهضة الثقافية في لبنان عبر جامعة القديس يوسف، إذ خرّجت 100 ألف طالب "يمثلون قيم الكفاءة والتعددية والخدمة المجتمعية"، وفق دكّاش الذي يؤكّد "إيمان الرهبنة بتكوين أفراد يضعون إمكاناتهم في خدمة الآخرين، وخاصة لبنان".
تربط الجامعة علاقتها بالمجتمع اللبناني ثقافياً ودينياً عبر تعزيز الروحانية من دون إقصاء، فأنشأت مساراً دراسياً لذوي الاحتياجات الخاصة ومرشدية روحية تستقبل الجميع، على اختلاف طوائفهم. كما تركّز على القيم اليسوعية كالانفتاح، الحوار، والنبل الأخلاقي.
رغم الحرب، واصلت الجامعة رسالتها بدعم المجتمع، واليوم تساعد أكثر من 6 آلاف طالب عبر المنح الدراسية. وفي ظل الأزمة، تسعى لإعادة بناء الطبقة الوسطى عبر التضامن. "المقاومة الثقافية، المسؤولية الاجتماعية، والتحول الاجتماعي هي الأركان الثلاثة لعملنا و رسالتنا".