ثقافة 24-03-2025 | 07:02

الأبقى بين التاريخ والتخييل في "سنة القِطط السِّمان"

 الحمّادي ينتمي إلى جيل سابق في الرواية العربية في الكويت، وتنزع كتابته إلى الاندماج في التيار التجديدي الأوسع في طرائقها وتمثيلاتها ورؤاها.
الأبقى بين التاريخ والتخييل في "سنة القِطط السِّمان"
غلاف رواية "سنة القِطط السِّمان". (دار الشروق)
Smaller Bigger

من اللاّفت أن منطقة الخليج العربي غدت بيئةً خصبةً للكتابة السردية الحديثة، وزيادة على أنها منتجةٌ، هي مساهمةٌ مميَّزةٌ في إضافات نوعية في هذه الكتابة، خصوصاً في القصة القصيرة أو الرواية، وبينهما مُدونةٌ شعرية تمُدُّ القصيدة العربية الحديثة بزاد وافر في مبنيَي اللغة والخيال. نتاجاتٌّ، كلها مؤصَّلة في أوطانها، ومستمدّةٌ من تاريخها الأصلي، وثقافتها، وتحيا في زمانها.

من اللافت أيضاً، أن هذه الظاهرة التي ليست جديدةً تماماً، إذا كانت تفيد بداهةً زحزحةَ مركزياتٍ أدبية ثقافية انغرست فيها طويلاً لأسباب مفهومة وأصبحت متجاوزة، فإنها تعبيرٌ عن انتقال مجتمعاتها، بعد تحديثِ البنى الاقتصادية والعمرانية وترسيخها، إلى مرحلة إعادة استكشاف الهوية وتجديدها. والأدب، الرواية اليوم من أقوى وأبلغ أدواته قولاً وتمثيلاً. وإذ نشهد تشكلاً متناميّاً، متعدّدَ المظهر للتعبيرات الأدبية التحديثية في هذه المنطقة، كما في الأطراف المغاربية، فإنها لوحة بانورامية يكبر بها العالم العربي ويزيد اتساعاً وغنىً إبداعيّاً.

على هذه الأرضية، أريد قراءة رواية حظيت باهتمام العديد من النقاد والمتلقين الذين عرضوا أكثرَ سيرتها الحكائية، وعناصرها الخبرية التاريخية وبينوا مجمل المعاني المطروقة فيها لزمن ومرحلة.

مفيدة لا شك لمن يقرأ رواية الأديب الكويتي عبد الوهاب الحمّادي "سنَة القطط السِّمان" (دار الشروق، 2024) التي صدرت بعد روايتين أساسين في مسيرته الأدبية: "لا تقصص رؤياك على أحد"(2015)؛ و"لا غالب إلا الله" (2021) التي حصلت على جائزة الدولة التشجيعية في الكويت. من المهم الإشارة إلى أن الحمّادي ينتمي إلى جيل سابق في الرواية العربية في الكويت أبرز أسمائه فهد إسماعيل فهد، ليلى العثمان وطالب الرفاعي، وتنزع كتابته إلى الاندماج في التيار التجديدي الأوسع في طرائقها وتمثيلاتها ورؤاها المازجة بين المنظور الموطني، والمخيال المحلي، والسياق القومي، والامتداد الإنساني، من هنا تتعدد مقارباتها وتغتني سرداً وتخييلاً.

لنقترب منهما لا بأس بأن نتتبع الخط السرديَّ الطوليَّ ما أمكن، فهو متشعِّبٌ ومتقلب، وهذه من خصائص السرد الحديث عامة، يتناوب فيه تداخل الأزمنة، والأحداث، وتعدّد الصوت. هذه الأخيرة الغالبة تجتمع فيها المادة الخبرية والفعلية والحركية الزمنية، تنطلق من الشخصية المركزية محور الرواية، مبتدأها ومنتهاها: شخصية الشاب مساعد، أبوه كان من صيادي الغوص لاستخراج اللؤلؤ إلى أن بارت هذه التجارة، وترك ابنه قبل وفاته يعمل في عُهدة تاجر (منصور التّاير). سكنه بيت ورثه من أبيه. متزوّج ممن ورثت بيت أبيها، له نصيب من تعليم ويقرأ المجلات، يعيش في وسط من طبقات ومصالح متضاربة، وبعقليات ومطامح شتى: مجتمع التجار، رمزه (منصور، أبو عبد اللطيف). السلطة: رئيس البلدية أبو جابر، ومسؤول أمن السوق. السلطة الدينية: الملّا فالح البطانة إمام المسجد. أصدقاء مقهى ابن الزّنان: خليفة الفقير والمتديّن، نائب الإمام سيخلفه بعد موته، ممثلاً ديمومة فكره وسلطته، حاتم، الشاب المستنير، الشاعر شبيب بن صقر، ناصر أخو التاجر منصور المقيم في البصرة. بجانب هؤلاء، الإنكليزي ديغوري ممثل المعتمدية البريطانية في الكويت رمز الحضور الأجنبي؛ والهندستاني صاحب مطعم شديد الرواج في السوق حوله تُنسجُ الحكاية وتتسمى حادثتُها.

شهد عام 1937 حادثاً هزّ المدينة اتُّهم فيه صاحب المطعم شهير ناجح (الهندستاني) بذبح  القطط وبيع لحمها، وحبسه في انتظار محاكمته، من دون التحقق من حقيقة تهمة حولها تُحبكُ الرواية كلُّها، وتتفرع منها خيوطها السرديةُ ومصائرُ الشخصيات، وأوضاعُ وصراعات في البلاد، شخصية مساعد مجراها الرئيس وطموحه يجرّ عليه الويلات ويقود الأحداث. يعمل محاسباً عند التاجر منصور، وفي المعتمدية البريطانية، ويستدين من التاجر مالاً في مقابل رهن بيته وبيت زوجته يدخل به شريكاً في مطعم الهندستاني، ويستولي التاجر على الرهن بعد غلق المطعم. تلي هذا تطورات أهمها بوار تجارة التاير، ورفع الرهن عن بيتي مساعد الذي ينجو من التشرد ليصبح محاسباً للبلدية بفضل وسطاء من دون أن يفارقه طموح الكسب والرهان على حياة أفضل.

يمشي قارئ هذه الرواية في طريقين يتوازيان  مرة، ويتقاطعان أخرى، ويفترقان. بناءٌ مردُّهُ إلى  رؤية الكاتب الذي اقتضى أن يجمع في مضمار واحد، قصةٍ إطار، أفراسَ الماضي والحاضر والمستقبل، أيضا. كلّ واحدٍ يخوض سباقه ويُجلي سلطته، ويتلفظ بثقافته ويُفصح عن طموحه.

طريق مساعد يقوده ساردٌ ويسكنه ثانٍ هو ضميرُ المخاطب ناقلُ الخبر وواصفُ المحيط، فهو إذن، شكلًا برّاني، وهو ضروريٌّ جدًّا لأنه يرسم المعالم الخارجية للبيئة، للكويت في زمنها، بمعالم وفضاءات محددة، ومن خصائص رواية الحمادي أنها رواية فضاء بامتياز: أحياء، أزقة، مقاهٍ، أسواق، بيوت، هذه دوالٌّ سيميائية لمدلولات. هي كذلك رواية أزمنة تؤرِّخ بحوادث وسنوات الكوارث التي أصابت البلد: سنة الجُدري، سنة الطّفحة، سنة الهدّامة (1935) لنصل إلى 1937وهي سنة القطط السمان، كما سمّاها مؤلفها صفةً للحادث، وتسميةً لفعل مادي: قطط تّذبح وتباع بالغش، وآخر رمزي مجازي، الشيوخ والتجار الذين يسمنون من الاستغلال.

وطريقُ الاستيهامات مصنوعٌ من الأحلام، والهواجس والمناجاة أقرب ما تكون إلى تيار الوعي وليست، ينعزل فيها مساعد عن ضجيج الواقع لينفرد بهمومه ويأكله الخوف والقلق على وضعه الشخصي، أناني محض، في خضم المصير الجماعي لحكام وتجار ونخبة مستنيرة وأجنبي يقضم السيادة، ويتربّص بثورة وطنية ستتدفق ينابيعها عشية اكتشافات النفط الأولى. طريق مساعد الثاني إذ يتقاطع مع الأول، فليلُمّ شتات أطرافه الخبرية المبتذلة، ذات بنية خارجية، ومرجعية تاريخية، وليُمكٍّن للصوت الذاتي الذي إذ يفكك خطاطة السرد الكلاسيكي، ينزله منزلة الرواية بخصوصيتها اللغوية الفنية التكوينية، أي الجنس الأدبي التخييلُ عِمادُه. نعم، إن التاريخ مادة أساس ومرتكز صلب لـ"سنة القطط السِمان"، وعبد الوهاب الحمّادي يستخدمه مصفّى ويوظفه بذكاء ليقدمَ الى قراء بلده وخارجه سرديةً تخييليةً برؤية إيديولوجية بمكونات سياسية وثقافية ترسم هويته وأبعاد انتمائه ومطامحه، بنسيج ماضٍ يستشرف غده ويناوشه، ويعلو فيها الصوتُ المفرد، والرواية تؤسس على طريقتها وتشهد وتنبيْ وتُنذر بفن. هذا دور مهمٌّ جدًّا تنخرط فيه رواية الخليج العربي يعيد فيها الإنسان بناء تاريخه ويعي ذاته.  

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
النهار تتحقق 10/6/2025 11:04:00 AM
ابتسامات عريضة أضاءت القسمات. فيديو للشيخ أحمد الأسير والمغني فضل شاكر انتشر في وسائل التواصل خلال الساعات الماضية، وتقصّت "النّهار" صحّته. 
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".