ثقافة
24-02-2025 | 08:30
متى يعتزل الكاتبُ الكتابة؟
فضيلة الفاروق: أعرفُ أدباء ممتازين تركوا الكتابةَ وانغمسوا في مهنٍ تطعمهم خبزاً!

لوحة تعبيرية
تؤثرُ ظروفُ الحياةِ على الكاتبِ وعلاقتهِ بالكتابة وقد ترسمُ لهُ مساراً مختلفا عكسَ توقعاتهِ، هنالكَ مِنَ الكُتّابِ من اختفى بعدَ كتابةِ عملٍ واحد، وهنالكَ من استمّرَ وسابقَ العمر كي ينجزَ مشاريعه، وقد يتساءلُ القارئ وهو يتأمّل مسيرةَ كاتبٍ يحبهُ عن فكرةِ اعتزالِ الكتابة، ومتى عليه أن يتوقف عن تأليفِ الروايات، بدلاً من أن يقع في فخّ تكرارِ أعمالهِ، وهل تتغيّرُ مُخيّلةُ الروائي مع التقدّم في العمر؟ بينَ الشابِ العشريني الذي قد يمتلكُ المخيّلةَ الخصبة ولكنّهُ قد يفتقِرُ إلى الخبرةِ في استخدامِ الأدوات والتقنيات، ثم ينضج ويكتسب الخبرة ويفتقدُ الإلهام والشغف، هل يشعر حينَها بالاستنزاف؟ وأنّهُ استهلكَ كلّ مواضيعه وقضاياه؟ وما الذي يلهمهُ حينها كي يستمّر في كتابةِ رواياتٍ في مستوى توقعاتِ قرائهِ؟ في هذا التحقيق تواصلنا مع أربعة من أهمّ الروائيين والروائياتِ العرب، كي نحصلَ على إجابات منهم استنادًا الى خبراتهم وتجاربهم في الكتابة.
فضيلة الفاروق: أعرفُ أدباء ممتازين تركوا الكتابةَ وانغمسوا في مهنٍ تطعمهم خبزاً!
ليس من حق أحدٍ أن يحدّد لكاتبٍ متى يبدأ الكتابةَ ومتى يتوقف، ثمة شيءٌ من الداخل يجعلهُ يكتب، فإذا شعر أنّ لا جدوى من الكتابة فسيتوقف، الأمرُ متعلّق بهِ وحده. والأمورُ كلّها نسبية بالنسبةِ اليّ، تموتُ الموهبة والشغف في البيئة السامة مثل بيئتنا العربية. أعرفُ أدباء ممتازين تركوا الكتابة تماماً وانغمسوا في مهنٍ تطعمهم خبزاً، حتى القراءة لم يعودوا يمارسونها. الأمور غير متعلقة بالعمر، ولا بالمخيلة الخصبة، بل بالمتلقي الذي يعلق للكاتب مشنقته، والمؤسسات التي تهمّشه حتى يشعر أنّه دون المستوى، صدقيني نحن خارج المنظومة الثقافية العالمية. الأدب الذي نروّج له ونغدق عليه بالمكافآت هو احياناً مواضيع إنشاء يكتب تلاميذ المتوسط والثانوي أفضل منها، ذلك أنّ من يقيّمها محدود في تفكيره. المخيّلة عالمٌ واسعٌ جداً، وهي تتغذّى من القراءة، لهذا يسهل أن تكتشفي "الكاتب القارئ" والكاتب الذي يكتب عملاً واحداً ثم يعيد كتابته، من دون أن يجتهد لابتكار لبنات جديدة لعمله، أرى الكاتب هنا مثل الزواج التقليدي المنتهي الصلاحية لكنّه مستمرٌ من أجل إرضاء الناس.
إنّ الروائي الحقيقي لا يشعر بالاستنزاف لأنّ العالم في تجدّدٍ مستمر، شخصياً أحبُ قارئاً واعياً، وحده الوعي يحرّضني على الكتابة. عند آخرين: "الحب يلهمهم، الدفاع عن المظلومين...إلخ"... كل كاتب حكاية في ذاتها، أمّا ما قد يساعدهُ على الاستمرارية، فهذا سؤالٌ يصعب اختصار جوابه، لكنّي سأعطيك مثلاً أحب أن أعطيه دائماً في مناقشاتي: "حين كنّا تلاميذ وطلبة، تجدين في القسم الواحد طالباً أو طالبين متميزين، يليهما بعض الطلبة المتوسطي المستوى، ثم الغالبية التي تكون أقل من المتوسط. جمهور القراءة مقسّم هكذا، على الكاتب أن يعرف جمهوره، فإن كان مستواه في الطليعة عليه أن يرضى بجمهور قليل يمثل النخبة، وإن كان يرغب في الانتشار عليه أن يكتب للفئة الأقل من المتوسط. تخيّلي معي نحن أمام واجهة عربية بمئة مليون أمّي، لا يقرأون نهائياً، أشطبي الأطفال، والموظفين الذي أنهكتهم الوظيفة وحولتهم الى كائنات تعمل لتعيش، ستبقى النسبة التي بالكاد تقرأ من أشباه المتعلمين، وهذه النسبة خطيرة جداً، لأنّها سيطرت على وسائل الإعلام ودور النشر ووزارات الثقافة والمؤسّسات التي تعنى بالثقافة، هل ترين الكارثة؟
برهان شاوي: الكتابة هي ضرورة نفسية وعقلية غامضة
الكتابة ليست معركة على الكاتب إمّا أن يهاجم فيها وإما أن ينسحبَ منها. هي ضرورة نفسية وعقلية غامضة. الأمر له علاقة بالكتابة نفسها، فهي تتوقف بشكل عام من حالها حين لا يجد الكاتب ما يقوله، وأعتقد أنّ هنالك قلة من الكتّاب ممّن أعلنت توقفها عن الكتابة، "دوستويفسكي" كان يرغب في كتابة روايات أخرى ولكنّ الموتَ سبقه، علما أنّه كتب ما يعادل 18 مجلداً بينها روايات خالدة. أمّا بالنسبةِ إلى عمرِ الكاتبِ وعلاقته بالكتابة، فأنا لا أتفّق معك، الرواية ليست هي الشعر، فكما يقول إليوت بأنّنا نعيد ما كتبناه في العشرين لكن بتنويعات جديدة. فلا الشغف ولا حتى المخيلة وحدها يصنعان رواية، ولا التقنيات والخبرة وحدهما يخلقان رواية جيدة، اجتماع المخيلة والتقنيات والخبرة الحياتية والأدبية معاً ربما يخلقان نصاً روائياً جيداً، ولا ننسى أنّ أمبرتو إيكو بدأ الكتابة الروائية بعد الخمسين! قد يشعر الكاتب فعلاً بالاستنزاف، لكنّ الأمر كلّه يكمن في القول الروائي، يجب أن يكون لدى الكاتب ما يريد قوله.
نجوى بركات: من الأفضل للكاتب العشوائي الذي لا يملك صوتاً، ألاّ يكتبَ من الأساس
ليس عدد الروايات ما يحدّد موهبة كاتبٍ وأهميته، وهذه في رأيي بداهة لا تحتاج دليلاً، مستوى العمل الأدبي هو الأساس في تقييم أي مشروع مهما كبر أو قلّ، وقد تكتب عشرات الأعمال من دون أن تمتلك واحداً أو يكون لديك همّ إبداعي حقيقي تسعى وراءه. وفي ما يتعلّق بي، أنا لا أسعى إلى الحضور عبر عدد رواياتي، وإنّما عبر نوعيتها. أمّا إجابتي على سؤالك، فإني أرى أنّ من الأفضل للكاتب العشوائي الذي لا يملك صوتاً، ألاّ يبدأ من الأساس، لا أن يتوقّف فحسب، إن لم يكن يضيف بكتابته ولو القليل، وما أكثرهم اليوم، إذ يتضافر استسهال الكتابة مع سهولة النشر. والتوقف عن الكتابة سوف يفرض نفسه على الكاتب الجيد عندما يجد أنّه فرغ ولم يعد لديه ما يقدّمه، خصوصاً أنّه القارئ الأول لنفسه.
سؤالكِ عن مخيّلةِ الكاتب ونضوجها مع التقدّم في العمر، يحاكيني لأنّي كتبت روايتي الأولى وأنا في الرابعة والعشرين. والحقّ أني كنت كالنبع المتفجّر أسيطر بصعوبة على دفقي وأكتب بأعصابي ومعدتي، ما جعلني في لحظةٍ ما، أكره الكتابة وأعتبرها أسْراً ولعنةً وناراً حارقة... اليوم، أنا أهدأ بكثير، وعلاقتي بالكتابة استوت وراقت إذا صحّ التعبير، بل صرت أرى أنّ تناولها ببطء وتركها لتتخمّر مع الوقت، يُكسبها نضجاً ومذاقاً آخر. لم أعد مستعجلة وعلى الرواية أن تأتي إليّ بالإيقاع الذي تراه مناسباً. أمّا سؤالك عن الإلهامِ فهو يعبّر عن هاجس يعتري الكتّاب الذين يكتبون بشكل باكر، والذين يرون أنّ معين الخيال أو الإبداع لديهم قد ينضب مع العمر، مع أنّ العكس هو الذي يحصل، خصوصاً أن النظرة إلى الحياة ومآزقها ومفاجآتها وعبثيتها، ستثرى وتتلوّن بمرور السنين، كما أنّها ستتدرّب وتتعتّق وتتصفّى من شوائب الرغبة والنزق والحكم السريع على الأشياء والمزاحمة التي تميّز الشباب.
انطلاقاً من خبرتي الذاتية، فكأنّي قد تصالحتُ أخيراً مع الكتابة، ومع فكرة وجودي فيها وتواجدي معها، إذ كنت أنفي نفسي منها دائماً، خفراً وخوفاً في الآن نفسه. كانت كأنّها دائرة خطر أتفاداها، أمارس حريّتي عبرها، وأخاف في آن واحد على حريتي منها. اليوم، أفتح لها الباب وأدعوها الى مجالستي وقد بتنا شريكتين متكافئتين.
محسن الرملي: المرحلة العمرية الأفضل للكتابة هي بين الأربعين والخمسين
لا يوجد قياس لمسألة اعتزال الكتابة، فالأمر يتعلق بطبيعة كل كاتب وظروفه، بل حتى بوضعه الصحي والاجتماعي، وأعتقد أنّ توقفه عن الكتابة يتوقف على مدى قدرته على الإضافة إلى ما سبق، وعلى مدى ما إذا كان لديه جديد وشيئ يريد قوله، وفي كل الأحوال أعتقد أن الكتابة بالنسبة الى الكاتب هي أسلوب حياة وهوية وانعكاس لكل وجوده وأفكاره ورؤاه، لذا نجد غالبهم لا يتوقفون عن الكتابة ما داموا أحياء، وحتى الذين يتوقفون اضطراراً، لظروفهم، فهم لا يعلنون ذلك، على أمل أن يستطيعوا تقديم عمل إضافي جديد، بحيث يبدو التوقف عن الكتابة بالنسبة لهم كأنّه توقف عن الحياة.
أمّا بالنسبة الى خصوبةِ المخيّلة والإلهام وعلاقتها بالعمر فنعم، هذا تشخيص صحيح إلى حد كبير، وقد لاحظته في تجربة مسيرتي الشخصية مع الكتابة في مختلف المراحل العمرية، وكثيراً ما تحدثنا عن هذا الأمر، أنا والأصدقاء الكُتاب من مختلف الثقافات، كما لاحظنا ذلك في دراستنا لمختلف أعمال الكُتاب الآخرين من مختلف الأجيال والثقافات، وهذا لا يقلل من أهمية ما يكتبونه، بل يثريه ويجعل سلسلة أعمالهم متنوعة، من حيث الشكل والمضمون. فمثلاً؛ هناك فرق شاسع بين أول عمل لنجيب محفوظ كتبه وهو في العشرينات من عمره، وعمله الأخير الذي كتبه بعد تجاوز عمره التسعين، ولكن لكل منهما أهميته الكبيرة... أما في تقديري الشخصي، فإن المرحلة العمرية الأفضل والقادرة على الجمع بين الأمرين فهي ما بين الأربعين والخمسين، ليس على صعيد الكتابة فحسب وإنما في حياة أي إنسان، يبدو لي كأن ما قبل الأربعين هو مقدمة للحياة وما بعد الخمسين هو خاتمة لها.
لا يشعر الكاتب بالاستنزافِ حقاً مع التقدم في العمر، حتى لو كانت محور كل أعماله مواضيع وقضايا محددة بعينها، فسوف يبقى في داخله شيء يريد أن يضيفه إليها، وكما قال سيبويه: "أموت وفي نفسي شيء من حتى"، وشعوره بأنّ مازال لديه رأي أو وجهة نظر أو فكرة يريد أن يقولها وينفع بها الناس، هو ما سيساعده على الاستمرارية، ونلاحظ أن الكاتب في خواتيم حياته وأعماله، لا يهتم كثيراً بتوقعات القراء ورغباتهم والنجاح، بقدر اهتمامه بما يريد قوله هو بالشكل الذي يريده، وفي كل الأحوال، فإن لدى أي كاتب ثمة شيء أو مشروع مؤجل يود لو ينجزه، ولا يوقفه عن سعيه إلى ذلك سوى وطأة الزمن والموت، فكما قال كازانتزاكيس: "أنا لم أتعب، ولكن شمسي قد غربت".
العلامات الدالة
الأكثر قراءة
العالم العربي
9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات
9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة
9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال
9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟