
أحداث متتالية سلطت الضوء أخيراً على التحديات المتفاقمة التي تواجه المرأة السورية اليوم، من بينها مثلاً اختطاف الدكتورة رشا ناصر العلي، أستاذة الأدب العربي في جامعة حمص وعضو "اتحاد الكتّاب العرب"، أثناء توجّهها من منزلها في "مساكن الادخار" إلى الجامعة.
تزامنت هذه الحادثة مع تصاعد الضغوط الاجتماعية والثقافية على النساء السوريات، ما أعاد الجدل حول مكانة المرأة ودورها في مجتمع يتأرجح بين التوجهات الدينية المتشددة من السلطات الجديدة، والدعوات إلى بناء دولة مدنية حديثة قائمة على القانون والمساواة.
وقد برز هذا الصراع بشكل حاد على منصات التواصل الاجتماعي في أعقاب تظاهرات نظمها سوريون وسوريات في ساحة الأمويين في دمشق، مطالبين بدولة علمانية تضمن حقوق الجميع.
ورغم سلمية التظاهرة، واجه المشاركون فيها هجوماً عنيفاً من أنصار السلطة الجديدة، الذين وجهوا اتهامات وصلت إلى حدّ التخوين والـ"تشبيح"، وأطلقت ضدهم عبارات مسيئة، خاصة بحق إحدى الممثلات المشاركات، حيث لم تخلُ الانتقادات من طابع جنسي فجّ، في محاولة لتشويه سمعتها.
تُظهر هذه الأحداث بوضوح أن المرأة السورية لا تزال تُستخدم كساحة للمعارك الرمزية، سواء في ميدان السياسة أو في القضايا الاجتماعية.
وبينما تكافح النساء للمطالبة بحقوقهن في مجتمع عادل يحترم الحريات والمساواة، تُستخدم أجسادهن وأدوارهن الاجتماعية كأداة للصراع الأيديولوجي والسياسي.
هذه المواقف تعكس التحديات المستمرة في تحقيق التوازن بين متطلبات الحرية الفردية وقيم المجتمع، وهو أمر يتطلب حواراً حقيقياً ومجتمعاً يضمن احترام كرامة المرأة ويؤمن بدورها كشريك أساسي في بناء مستقبل سوريا.
صراع الملصقات
يشتعل جدل مجتمعي حول لباس المرأة في دمشق في السياق ذاته، بحيث تنتشر في شوارع المدينة ملصقات متناقضة، أحدها يحمل عنوان "حجاب المرأة المسلمة" ويحث على الالتزام بالقيم الدينية، وآخر بعنوان "لباس المرأة الحرة" يؤكد حرية المرأة في اختيار مظهرها دون قيود.
لا يقتصر هذا الجدل على هذه الرسائل البصرية، بل ترافق مع سيارات دعوية تجوب الأحياء، تدعو النساء عبر مكبّرات الصوت إلى ارتداء الحجاب "تحجبي يا أمة الله"، ما أثار انقساماً واسعاً بين من يراه تعزيزاً للقيم الدينية ومن يراه تعدّياً على الحريات الشخصية ومصادرة لها.
تواصلت "النهار" مع شخصيات بارزة في المشهد الثقافي السوري، منها الشاعرة والكاتبة روعة الكنج، والروائي والصحافي يعرب العيسى، لفهم أعمق لتداعيات "صراع الملصقات"، واستطلاع آرائهما حول هذه الظاهرة الجدلية.
تأثيرات مجتمعية وتحديات
تشير الشاعرة والكاتبة السورية روعة الكنج لـ"النهار" إلى تباين واضح في التعامل مع الظواهر الدعوية بين المحافظات السورية، موضحةً أن هذه الظواهر غالباً ما تظهر بشكل مبادرات فردية من دون توجيه رسمي مباشر من السلطات الجديدة. وتبرز هذه السلوكيات بشكل خاص من قبل أفراد ينتمون إلى بيئات ومجتمعات ذات طابع محافظ أو متشدد، غير معتادة على أنماط الحياة الحديثة واللباس العصري.
تتجلى هذه الممارسات في استخدام ألفاظ تنتقد الملابس العصرية بناءً على اقتناع مفاده "ما طلعنا بثورة لنشوف هيك شكيلات". إلى جانب ذلك، يلاحظ انتشار الفصل بين الرجال والنساء في وسائل النقل العام وظهور سيارات تُستخدم لأغراض دعوية. كما تحدثت الكنج عن مطالبة بعض عناصر "الهيئة" الرجال بارتداء ما يُسمّى "الشورت الشرعي"، ما يعكس تأثير هذه الظواهر حتى على الرجال.
أما بالنسبة للملصقات الدعوية، فتقول الكنج إنها تروّج لأفكار معينة دون استخدام العنف المباشر، إلا أن هذه الملصقات، مع السلوكيات السابقة، تُشيع أجواءً من الخوف، خصوصاً بين النساء. وغالباً ما يؤدي هذا إلى توجّه بعضهن نحو ارتداء ملابس أكثر احتشاماً خوفاً من التعرّض للمضايقات، سواء بإرادة شخصية أو تحت ضغط عائلي. ونتيجة لذلك، تتراجع مشاركة النساء في الأماكن العامة مثل المقاهي والحدائق.
تطرّف مجتمعي متصاعد
وتروي الكنج حادثة وقعت في حي القصاع ذي الأغلبية المسيحية، حيث أقدم أحد العناصر على توجيه شتائم لرجل وزوجته، واصفاً لباس المرأة بأنه انتهاك للأخلاق والشرف. وتشير إلى أن هذا الشخص لم يُحاسب على فعلته، بل تبيّن لاحقاً أنه مدعوم من المكتب الدعوي التابع لوزارة الأوقاف. وتعتبر الكنج أن الخطر الحقيقي يكمن في تحول هذه السلوكيات إلى سياسات موجهة، تُمنح فيها صلاحيات رسمية لعناصر يمارسون الترهيب أو حتى التكفير بناءً على المظهر الخارجي.
وتسلط الضوء على مظاهر جديدة في الجامع الأموي والحدائق العامة، مثل توزيع كتيبات دينية والترويج للباس الشرعي، إلى جانب تصريحات بعض المسؤولين حول أدوار المرأة وصفاتها "البيولوجية" التي تثير شكوكاً حول حقوق النساء ومكانتهن في المجتمع.
وترى الكنج أن المجتمع المدني يجب أن يؤدي دوراً حيوياً في مواجهة هذه الظواهر من خلال تعزيز مفهوم المواطنة والحفاظ على حقوق الأفراد باعتبارهم كيانات مستقلة. وتلفت الانتباه إلى وجود مكتب خاص في القصر العدلي يفصل قضايا الرجال عن النساء، بالإضافة إلى مظاهر التعامل مع النساء السافرات بطريقة دونية، مثل تجنب المسؤولين النظر إليهن مباشرة أو طلب وسيط للتواصل معهن، وأحياناً الالتفاف بظهورهم لئلا يروهنّ.
تشدد الكنج على أهمية التصدي لهذه الممارسات من خلال تعزيز ثقافة احترام الحريات الفردية، وتوفير بيئة تحمي حقوق النساء وتدعم مشاركتهن الفاعلة في الحياة العامة.
ترسيخ الحوار السلمي
يضع الكاتب والروائي السوري يعرب العيسى موقفاً واضحاً: التدخل في الخيارات الشخصية، سواء في لباس الرجل أو المرأة، أمر لا مبرر له. ومع ذلك، فإن "صراع الملصقات" الذي شهدته سوريا أخيراً يشير إلى بزوغ وعي جديد في النقاش العام، وظهور جرأة غير مألوفة لدى السوريين في تناول قضايا كانت تُعدّ من المحرّمات.
بالنسبة إلى العيسى، فإن انتشار ملصقات تدعو إلى الحجاب والنقاب أثار قلقاً كبيراً، خاصة بين السوريين المغتربين، الذين باتوا يتخوفون من انزلاق البلاد نحو سيناريو "الأفغنة". لكنّ الحملة المضادة التي حملت عنوان "لباس المرأة الحرة" جاءت كرد واضح ومدروس، حيث تم الرد على كل ملصق بفكرة مقابلة، في مشهد يعكس تصعيداً حضارياً للنقاش المجتمعي.
العيسى يستذكر حادثة مأساوية من مطلع الثمانينيات، عندما أجبرت بعض النساء في دمشق على خلع الحجاب بالقوة من قبل سرايا الدفاع، مشيراً إلى أن مثل هذه الحوادث كانت من أخطر ما شهدته سوريا خلال العقود الماضية. ورغم أن الدعوة للحجاب أقل وطأة وخطورة مقارنة بذلك الحدث، فإنها تبقى في جوهرها محاولة لمصادرة الحرية الفردية، سواء بفرض الحجاب أو منعه.
ما يلفت العيسى هنا ليس الملصقات في حد ذاتها، بل الأثر الذي قد تتركه هذه الظاهرة في ترسيخ آليات التعبير السلمي والحوار المتمدن. يرى أن هذا النوع من الصراع الرمزي، رغم أنه يعكس انقساماً ثقافياً ومجتمعياً عميقاً داخل سوريا، يشكل خطوة نحو نقاش صحي وواعٍ بعيداً عن العنف.
ويضع "صراع الملصقات" في سياق أوسع، رابطاً إياه برفض السوريين للقمع الممنهج الذي طال محاولات التظاهر والتعبير الحر، سواء من النظام أو من القوى المسيطرة في إدلب.
يعتبر العيسى أن مثل هذه المبادرات، إذا ما تكررت، قد تؤدي دوراً في إعادة تشكيل الهوية الوطنية والمجتمعية لسوريا الجديدة، شريطة أن تبتعد عن فرض الوصاية على الحريات الفردية، وأن تتحول إلى ثقافة حوار تُثري المشهد العام.