*اسماعيل فقيه
بألوان الطبيعة وانسيابها في تجاعيد الجغرافيا وخفاياها، مجرى الزمان والنظر، يتلو نشيد البصر ويعزف مشهد الحضور في المدى التجريدي المفتوح، واللون المبرم في انطباعية قديرة.
يرسم كمن يكتب، كمن يغني، كمن يرقص، كمن يهمس للزمن... وترى لوحته فراشة تنسج اللون وخيوطه السحرية، وزهرة في الإطار، وومضة عبير في الظلال وما خلفها وحولها من تحولات الشكل والمضمون.
الفنان التشكيلي اللبناني الدكتور نزار ضاهر في maya art وسط بيروت حتى (15كانون الثاني (يناير) 2025)، يقدم باقة من اللوحات التشكيلية التجريدية التحريضية الانطباعية بالأكليريك، يختصر فيها زمانه ومكانه وألوانه، ويتوقف عند الحرب الأخيرة، بلوحتين خص بهما زمن الحرب، تحت عنوان "إضاءات" في المكان الجنوبي، حيث جنّت الحرب واشتعلت، مُجسداً ظلال "الزيتونة" الصامدة بوجه النار والاقتلاع، وزمن الحرب في أرض البقاع، حيث الحرب القاسية أيضاً، مُجسداً "سنابل" الحياة التي تميل ولا تسقط، تنحني للعاصفة ثم تنهض أقوى مما كانت قبل الحرب.
مُجبر الفنان على الإنجاز والانتقال إلى مراحل إبداعية متتالية، مبتكرة. ففي كل لوحة يعرضها، يقدم جديداً للعين، لتنعم بها. يرسم صورة ملونة مفتوحة على كثافة اللون والشكل والمضمون، المُفعّل بالتعبير الانطباعي التجريدي، ليتعرف البصر على ما يعتمل في داخله وداخل الزمن الذي يعيشه.
وفي واقع حاله، كأنه لا يرسم جديداً ، بل يسعى الى نشاط فني، واحتمالات ألوان جازمة بتعابيرها وإشاراتها،اللونية والتعبيرية، وبغموضها البناء.
ينتقل ضاهر من ضفة لونية الى أخرى، بهدف بناء الصورة الأوضح على "شاشة" الوعي، كي تبقى صورة الحياة نابضة، على مدى الأمل والرجاء.
تفسير اللوحة يأخذ مداه الأوسع في شروحات اللون، إذ يمكن القول إن اللون هو المساحة التي تبرز في اللوحة وخارجها، ويمكن ترسيم حدود اللون في شكل غير مُحدد، غير ثابت في دلالة أخيرة.
![]()
يشكّل اللون حالة وجود مفتوحة على تنوعات شتى، ليس أقلها تنوعات المضمون الذي يعطي الإنسان ألق الحياة والجمال. انطلاقاً من هذا المعنى، تقول لوحة الفنان فعلها اللوني الشامل، ويمكن عبره بناء الوعي الجمالي في كل لحظة. وعلى هذا الأساس، تبرز خصوصية اللون.
يوظف الفنان وعيه الفني وفق ما يرى ببصره وظنونه وحركته اليومية. المضمون والشكل هما أساسيان في مساحة اللون. الشكل صورة مفتوحة على كل الاحتمالات، وكذلك المضمون، ولا تعارض بينهما في انسيابهما الجمالي.
وللوحة عينها الذكية أيضاً، وهي ليست عين الفنان وحدها التي تبني مشهد اللوحة وألوانها وحتى أطيافها. العين هي جزء هام وفعّال من الهيكل الكبير الذي يحتوي على "حواس" الجمال والسحر والبهاء.
إنها المدخل الأول للشكل وللإطار الواسع، ومن ثم هي تُراصف "الحواس" وتتناقلها. ويلعب الفنان دوراً كبيراً في تأصيل هذه الحواس. كما أن لجسم الفنان دوره الفاعل في تركيب المشهد اللوني، كذلك عقله وخياله وروحه. كلما كانت هذه الأدوار فاعلة، أدوار الحواس في هيكل الفنان بما يمثل من قدرات اجتراحية وتوصيلية، عكست حيوية النفس وحيوية "النار" المتأججة في داخلها. العين تهندس النفس وتأمرها، وفي المقابل تتحرك الذات وفق شروط الوعي الجمالي الذي تتقاسمه مع العين. وهنا يولد أو يتوالد التكامل المعرفي التركيبي للوحة.
الفنان نزار ضاهر جزء لا يتجزأ من الطبيعة، هل ستبقى الطبيعة هاجسه في اللوحة؟ إن هواجسه الجمالية ليست ثابتة ولا هي قائمة على أساس لا يتغير. الطبيعة ليست هاجسه بقدر ما هي لغته التي يكتب ويرسم بها التفاصيل الحياتية.
الطبيعة هي الحياة، وهي مكان الإنسان وأحواله. لا يمكن الخروج من الذات أو المكان إلّا في الغياب الذي ينتظرنا وننتظره. ربما يكون الهاجس الأهم في حياة الفنان هو السؤال في اللون، كيفية استخراج اللون من بين المساحات والمسافات والأمكنة المتنوعة والمفتوحة على اللانهاية، وعلى الاسئلة المتوالدة من ذاتها. والطبيعة ليست حكراً على الجمال أو الأحاسيس الجيّاشة، بل هي أيضاً مدار بحث واستقطاب لكل الظنون الجميلة والاحتمالات.
تتكثف ألوان لوحته جنوحاً نحو التفجّر كأنها تسير في اتجاه لوني معين، فما هي حدوده، وما هي المشقّة لبلوغه؟ ربما المشقّة قائمة في أساس الوعي، وهذه المشقة هي قدر كل فنان.
أما لوحته فتسير في اتجاه لونيّ كبير، لون الحياة، وهذا التفجّر هو مرحلة من المراحل التصاعدية في عملية بناء اللوحة، مرتبطة عميقاً بالجذور الإنسانية التي تعبرها. وتستمر هذه المراحل متعاقبة حتى اللاوصول، ذلك أن الوصول إلى لون نهائي، يعني الوصول إلى نبض أخير في القلب والروح. ما دامت الذات متحركة وناشطة وقابضة على الأسئلة النارية، الأسئلة القلقة والضاجّة بأجوبة الحب والتعب والأزهار والغيوم، يبقى اللون على موعد يومي، أزلي، مع التفجّر والانبهار.
غير أن الطبيعة في لوحته تبدو متعبة رغم جنوح ألوانها إلى الحرية والتحرر من قيود الجغرافيا. الطبيعة ككل كائن حي، تتعب وتهلك وربما تموت. ربما يكون التعب في لوحته هو هذا الجمال الذي يرسم الأجنحة التي تحملها إلى حريتها، الحرية الكبيرة والمريحة والتي تقدم الطمأنينة والسعادة للعين والقلب. هو تعب لذيذ حتماً، يعطي صورة ناصعة للمعنى الوجودي الذي يسعى إليه الإنسان في كل لحظة. ربما تكون الطبيعة الوجه الآخر لتعب الجسم. وأعتقد أن جسم الإنسان يكمّل جسم الطبيعة. وربما أيضاً هما جسم واحد في كيانين نظن أنهما منفصلان.
ثمة أحاسيس صعبة قد تواجه اللون بصعوبات، هل يتجسّد الحزن أو الفرح في لوحته، وكيف يتم هذا التشابك بين همس الحزن وسواه من الأحاسيس وصورة الشكل؟
لا شك في أن التطرق إلى هذا الأمر الحسي الجامح يفرض وعياً في صورة المتخيل والمنتظر . للشعور دور فاعل في بناء اللوحة. الدافع الأساس للوحة هو موضوعها، والموضوع الذي يولد من الواقع، ومن الحياة، هو جواب مباشر عن أسئلة القلب والروح والجسد، وبالتالي لا يمكن للحالة إلّا أن تبني معناها، بكل أبعادها وأسسها، وتأثيراتها في حساسية الإنسان. يمكن الخيال أن يلتقط ذبذبات الأحاسيس مهما كانت قاسية أو العكس، والفنان هو الخيال، وهو الذي يلعب دور الذبذبات، فيلتقط ما يساهم في توفير الشكل، وتقديمه للنظر، وطبعاً لا يقدمه للعين فقط، بل لكل الحواس.
الإبحار في اللون، هل يغيّر إيقاع الزمن في حياة الفنان؟
كل شيء إلى زوال، وفق النظرية والواقع والقناعة البشرية لمفهوم الوجود. وبالنسبة إلى الفنان، ما زالت أيّامه على طقوسها وإبداعها، وهي نفسها، ولحظة الإبداع لا وقت محدداً لها، كل موعد له خصوصية. توقيت لحظة الإبداع ممكنة أحياناً ومستحيلة في أغلب الأحيان، ولذلك يترك للحالة أن تأتي من دون موعد، وإذا جاء الموعد، احتفظ بوقائعها، ودوّنها وفق أصول انطلق منها دائماً.
نبض