بين صمت أنقرة وصخب واشنطن... أين تتجه بوصلة الرياض؟

منبر 20-11-2025 | 12:46

بين صمت أنقرة وصخب واشنطن... أين تتجه بوصلة الرياض؟

في كل منعطف تاريخي كبير، يظهر من يفهم الإيقاع قبل أن يبدأ العزف. وفي الشرق الأوسط اليوم، بينما تتنازع القوى على الصوت هناك من اختار الصمت. الصمت التركي الذي يسبق التحوّل، ويعيد تعريف الجغرافيا السياسية بصبر العارف لا بانفعال الطامح.
بين صمت أنقرة وصخب واشنطن... أين تتجه بوصلة الرياض؟
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض (أرشيف/ واس)
Smaller Bigger

المحامي خالد عجاج

 

 

 

في كل منعطف تاريخي كبير، يظهر من يفهم الإيقاع قبل أن يبدأ العزف. وفي الشرق الأوسط اليوم، بينما تتنازع القوى على الصوت هناك من اختار الصمت. الصمت التركي الذي يسبق التحوّل، ويعيد تعريف الجغرافيا السياسية بصبر العارف لا بانفعال الطامح.
القرن الحادي والعشرون، الذي وُلد في كنف الهيمنة الأميركية، لم يعد أميركياً كما تخيل صانعوه. الإرهاق الذي أصاب واشنطن بعد حروبها الطويلة، من العراق إلى أفغانستان، ومن أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، جعلها تتراجع ببطء عن مقعد القيادة. في هذا الفراغ، صعدت أنقرة ليس كبديل أيديولوجي بل كفاعل حضاري يدرك أن النفوذ في هذا القرن لا يُنتزع بالقوة فقط، بل يبنى بالثبات والاستراتيجية طويلة النفس.
في المقابل، تواجه المنطقة العربية، وعلى رأسها الرياض لحظة مفصلية، حيث تتقاطع داخل المملكة رؤيتان في التفكير الاستراتيجي؛ رؤية قديمة ما زالت ترتكز على المظلة الأميركية تنظر إلى تركيا بعين الريبة التاريخية، وتخشى من أي ظل عثماني يعيد إلى الأذهان توازنات سابقة.
ورؤية جديدة، براغماتية واقعية ترى في أنقرة شريكاً لا خصماً، وفي التوازن التركي عاملاً ضرورياً لاستقرار المشرق لا تهديداً له.

ومع هذا المشهد المتغير، تجد الرياض نفسها أمام مجموعة خيارات استراتيجية معقدة، أهمها تعزيز الانفتاح القائم أصلاً تجاه أنقرة. فالسعودية التي أعادت ترميم علاقاتها مع تركيا في السنوات الأخيرة، تدرك اليوم أن المرحلة المقبلة تتطلب انتقالاً من مجرد تحسين العلاقات إلى بناء شراكة أعمق وأكثر اتساعاً. فالتعاون مع واشنطن لم يعد كافياً وحده، والمحاور العربية التقليدية لم تعد تملك القوة الكافية لفرض توازن إقليمي مستقر.
لذلك يصبح تطوير التعاون مع تركيا في الأمن والاقتصاد والطاقة والصناعات الدفاعية، خياراً واقعياً لا ترفاً سياسياً، وضرورة تفرضها الخرائط الجديدة لا المجاملات الدبلوماسية. بهذا الانفتاح الأوسع تستطيع الرياض أن تتحول من لاعب يتفاعل مع التغيّرات إلى لاعب يشارك في صياغتها.
اللقاء بين ترامب ومحمد بن سلمان، الذي تهمس به بعض الدوائر، لن يكون مجرد اجتماع بروتوكولي. إنه مساحة تفاوض بين زمنين؛ زمن أميركا الذي يتراجع، وزمن تركيا الذي يتقدم. واشنطن تحاول تسويق "السلام" كسلعة سياسية متهالكة، بينما أنقرة تشتري الوقت وتستثمر في المستقبل.
أما غزة التي كانت تبدو هامشاً على خريطة السياسة، فقد أصبحت قلب اللعبة كلها. دخول تركيا على خطها ليس مجرد تضامن إنساني أو موقف دعائي، بل إعلان صامت عن إعادة ضبط الشرق الأوسط. فالمسألة ليست حدوداً بين بحرٍ وصحراء، بل اختبارٌ للنظام العالمي ذاته، هل يبقى خاضعاً لهيمنة القطب الواحد، أم يبدأ مسار التعددية الذي تتقدمه أنقرة بثباتٍ محسوب؟
تدرك الرياض أن هذا التحول ليس عابراً، وأنقرة تعرف أن التوازن لا يُفرض، بل يُكتسب عبر الوقت. لذلك بينما ترفع واشنطن الصوت تختار تركيا الصمت. صمت استراتيجي تُبنى فيه الصناعات الدفاعية، ويعاد فيه رسم الاقتصاد وتستثمر فيه الجغرافيا لتتحول من موقع جغرافي إلى مركز إقليمي.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد تنافس بين دول، بل صراع بين منهجين في فهم القوة؛ المنهج الأميركي الذي يقوم على إدارة الفوضى، والمنهج التركي الذي يقوم على بناء التوازن.
وفي هذه المنطقة التي اعتادت العواصف، تبدو أنقرة وكأنها الميناء الوحيد الذي يعرف إلى أين تتجه الرياح. السؤال الحقيقي لم يعد عن غزة، بل عن الرياض نفسها؛ إلى أين تميل البوصلة؟ إلى صخب واشنطن ووعودها التي فقدت بريقها؟ أم إلى صمت أنقرة الذي يزداد عمقاً كل يوم؟
ففي زمن التحولات الكبرى، لا يصمد إلا من يفهم أن الجغرافيا لا تُكتب بالحبر الأميركي إلى الأبد، وأن التوازن القادم يحتاج إلى شراكات جديدة تعيد للمنطقة وزنها وكرامتها معاً.
إنه القرن التركي ليس لأن أنقرة تفرضه، بل لأن الآخرين تركوا الفراغ مفتوحاً أمامها. قرن يولد من رحم الصبر ويكبر في صمت، حتى إذا تكلم بلغةٍ يفهمها التاريخ. ومن لم يدرك بعد أن هذا الصمت هو بداية الزحف نحو قلب الجغرافيا العربية، فسيجد نفسه بعد حين يقرأ الأحداث لا يصنعها.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 11/22/2025 12:24:00 PM
حرّر محضر بالواقعة وتولّت النيابة العامة التحقيق.
اقتصاد وأعمال 11/20/2025 10:55:00 PM
الجديد في القرار أنه سيتيح للمستفيد من التعميم 158 الحصول على 800 دولار نقداً إضافة إلى 200 دولار عبر بطاقة الائتمان...
سياسة 11/20/2025 6:12:00 PM
الجيش اللبناني يوقف نوح زعيتر أحد أخطر تجّار المخدرات في لبنان
سياسة 11/22/2025 12:00:00 AM
نوّه عون بالدور المميّز الذي يقوم به الجيش المنتشر في الجنوب عموماً وفي قطاع جنوب الليطاني خصوصاً، محيّياً ذكرى العسكريين الشهداء الذين سقطوا منذ بدء تنفيذ الخطّة الأمنية والذين بلغ عددهم 12 شهيداً.