المخلّصون العنيفون: نقدٌ لمشروع "التنمية الاستعماري"
باسم الموسوي
لطالما قدّم الغرب نفسه كمُنقذٍ للبشرية، حاملاً مشعل الحضارة والعلم والتنمية إلى شعوبٍ وصفها بالتخلف والوحشية. لكن الاقتصادي الأمريكي ويليام إيستيرلي، في كتابه الجديد "المخلّصون العنيفون: غزو الغرب للبقية"، يقلب هذه الرواية رأسًا على عقب، ليكشف أن ما سُمّي بـ"التنمية" لم يكن في كثير من الأحيان سوى غطاء أخلاقي يبرّر العنف والاستغلال والاستعمار باسم "مصلحة الشعوب الأخرى".
يركّز إيستيرلي على مفهومٍ جوهري يسمّيه "حق التطوير بالغزو" (The Development Right of (Conquest.هذا المبدأ، الذي بدأ مع مستعمري نيو إنغلاند مثل جون وينثروب في القرن السابع عشر، يفترض أن من حق "الشعوب المتقدمة" أن تستولي على أراض وأمم "متأخرة" طالما أن ذلك يخدم "التقدّم العالمي". لم يكن الهدف فقط سرقة الثروات، بل كان هناك خطابٌ أخلاقي يزعم أن المستعمَر سيستفيد من "الحضارة" التي يجلبها المستعمِر- حتى لو كرهها أو قاومها.
ومن هذا المنطلق، برّر الغرب العبودية، وتصفية السكان الأصليين، والاستعمار، بل وحتى التدخلات العسكرية الحديثة، كل ذلك باسم "الخير" و"التنمية". يقول إيستيرلي بمرارة: "لم يكن المطلوب من الشعوب الخاضعة أن توافق على مصيرها، بل أن تُظهر امتنانًا لمن جاؤوا لـ'إنقاذها'".
في مواجهة هذا الخطاب الاستعماري، يعرض إيستيرلي تيارًا فكريًا مضادًا نشأ منذ عصر التنوير، يدافع عن الكرامة والوكالة، يُبرز إيستيرلي شخصيات مثل آدم سميث وإيمانويل كانط وجامين كونستانت، الذين لم يكتفوا بنقد العنف المادي، بل رأوا أن انتهاك "حق الشعوب في تقرير مصيرها" هو جوهر الظلم.
آدم سميث، على عكس الصورة الشائعة عنه كداعية للسوق الحرة فقط، كان ناقدًا لاذعًا للاستعمار والعبودية. فقد رأى أن "التجارة الحرة" البديل الأخلاقي للغزو، لأنها تقوم على الموافقة المتبادلة، لا على الإكراه. أما كانط، فقد أرسى أساسًا فلسفيًا لحق الإنسان في أن يُعامل كغايةٍ في ذاته، لا كوسيلة لتحقيق غايات أخرى—حتى لو كانت تلك الغايات "تحضّرية".
يأخذنا إيستيرلي في جولة تاريخية واسعة تغطي أربعة قرون، من حروب البيوريتانيين ضد الهنود الحمر، إلى تجارة الرقيق، إلى الاستعمار البريطاني والفرنسي، ثم إلى سياسات "التنمية" الأميركية في فيتنام وأفغانستان. في كل مرحلة، يرى إيستيرلي نفس النمط يتكرر: خُبراء غربيون يزعمون أنهم يعرفون ما هو الأفضل للآخرين، ثم يفرضون رؤيتهم بوسائل عنيفة أو شبه عنيفة.
الكتاب لا يكتفي بتتبع السياسات، بل يُدخل أصوات الضحايا أنفسهم، من العبيد المُحرّرين مثل فريدريك دوغلاس وهارييت جاكوبس، إلى المثقفين من العالم المستعمَر مثل محمود ممداني ورابيندرإناث طاغور. هؤلاء لم يرفضوا "التنمية" كفكرة، بل رفضوا أن تُفرض عليهم من خارج، دون احترام لكرامتهم أو إرادتهم.
ما بعد الاستعمار: هل تغيّر شيء؟
حتى بعد انتهاء الاستعمار الرسمي، يرى إيستيرلي أن "منطق المخلّص العنيف" لم يختفِ، بل تحوّل. فالمساعدات الخارجية، وبرامج الإصلاح الاقتصادي، وخطاب "بناء الدول"، كثيرًا ما تحمل نفس الفرضيات الانتقاصية: أن الغرب يملك الحلول، وأن بقية العالم مجرد كائنات سلبية تحتاج إلى التوجيه.
ويخلص إيستيرلي إلى أن التنمية الحقيقية لا يمكن أن تُفرض من الأعلى. فهي ليست فقط مسألة نمو اقتصادي أو بنى تحتية، بل مسألة كرامة واحترام للتقدم الحقيقي يكون حين يُسمح للشعوب أن تقرّر بنفسها ما تريد، ومتى تريد، وكيف تريد.

"المخلّصون العنيفون" ليس فقط كتابًا عن التاريخ، بل هو نداءٌ أخلاقي لصانعي السياسات والباحثين والناشطين اليوم. إنه يحذّر من خطورة "النوايا الحسنة" حين تتحول مصدراً للعنف والإهانة. ويذكّرنا بأن الحرية والكرامة ليستا ترفًا يمكن التنازل عنهما من أجل "التنمية"، بل هما جوهر التنمية ذاتها.
في زمنٍ تكثر فيه الدعوات إلى "إنقاذ" هذا الشعب أو ذاك، يبقى سؤال إيستيرلي الأهم: من أعطاكم الحق في إنقاذي؟
نبض