اللعبة تغيرت: سوريا الانفتاح ولبنان الانعزال
استاذ جامعي وباحث في سياسات الشرق الأوسط
لست بخبير اقتصادي ولا أدّعي فهم الاقتصاد، لكنّ المخاطر الاقتصادية الآتية على لبنان مخيفة وهائلة ومدمّرة. هذه المخاطر ليس لها علاقة بالوضع الاقتصادي السيئ في لبنان ولا بالفساد ولا بسوء الإدارة، ولا بتغيير السياسات الدعم الدولية والعربية حيال لبنان. السبب الرئيسي لدمار الاقتصاد اللبناني كليا ليس إسرائيل هذه المرة، بل سوريا.
الخطر على لبنان ليس كما تعودنا في علاقتنا بسوريا، فهو ليس بخطر سياسي، أو أمني، أو عسكري، أو مخابراتي. ولا علاقة له بالجغرافيا والتاريخ اللذين كانا دائماً عقدة في العلاقات اللبنانية - السورية. الخطر الآتي أعمق ومعقد أكثر بكثير مما سبق، وهو انفتاح سوريا اقتصادياً على العالم العربي والدولي من جهة، وانعزال لبنان أكثر وأكثر عن محيطه، وعلاقته، وانعدام التطور والإصلاح.
في الماضي بنى لبنان نظامه الاقتصادي وصموده على دعائم قليلة منها الخدمات كالسياحة، والمطبخ، والمصارف، والتعليم، والطبابة، إضافة إلى نقطة وصل بين الغرب والخليج. أما في سوريا فعندما استولى حزب البعث على السلطة عام ١٩٦٣ (وحتى قبل ذلك عبر محطات عدة كالوحدة مثلاً) تحول الاقتصاد السوري إلى الاشتراكية والانعزال، وازدادت حدة الانعزالية مع تسلم حافظ الأسد السلطة، وبعده بشار الذي أبقى القبضة الحديدة الاشتراكية الصارمة على الاقتصاد بالرغم من بعض التغيير البسيط في النخب الاقتصادية.
استفاد لبنان على مدى أجيال من الانعزال الاقتصادي السوري، بل إنّ هذا الانعزال شكّل أحد مصادر قوّته الاقتصادية إلى حد ما. فقد نجح لبنان في استقطاب الرساميل العربية والسورية، وراكم من خلالها الثروات والاستثمارات، خصوصا في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية. وبفضل انفتاحه ومرونته الاقتصادية، تحوّل إلى جنة مالية واقتصادية وإلى سوق مزدهرة تجذب المستثمر، والمقتدر السوري، والعربي وغيره.
اليوم تغيرت سوريا، والعالم أجمع يراقب هذا التبدل السياسي والاقتصادي والإيديولوجي السريع والجذري، وخصوصاً في علاقة سوريا الجديدة بمحيطها العربي والإقليمي، بما في ذلك إسرائيل. ومع الاتجاه نحو إعادة بناء دولة ديموقراطية ذات اقتصاد ليبيرالي انفتاحي حديث، قد يشكّل هذا التحوّل - من دون أدنى شك - تهديدا وجوديا للاقتصاد اللبناني، إذ إنّ حجم الاقتصاد السوري وإمكاناته تفوق بأضعاف الاقتصاد اللبناني، ما ينذر بانقلابٍ في موازين القوة الاقتصادية بين البلدين، وينعكس سلبا على لبنان الذي يواجه التحديات بسبب الفساد، وسياسات التجاهل والنكران، وانعدام الإصلاح.
على عكس العديد من دول المنطقة، تعدّ سوريا دولة غنية بجغرافيّتها، ومناخها، وطبيعتها، وثرواتها الطبيعية، والبشرية. في سوريا، إلى جانب ذلك، رأس مال بشريّ مؤهّل يتمثّل في طبقة متعلّمة ومثقّفة ومنفتحة اقتصاديا واجتماعيا، لطالما شكّلت ركيزة للحراك الاقتصادي والثقافي في البلاد، أكانت داعمة لحكم الأسد أم معارضة له. وقد برز العديد من أفراد هذه الطبقة في المهجر، إذ هاجر قسم منهم منذ ما قبل الثورة والحرب الأهلية السورية وحقق نجاحات في الخارج، تماما كما حدث مع النخب اللبنانية التي أسّست شبكات اقتصادية وثقافية في معظم بلدان المهجر.
تشكّل اليوم هذه النخبة العمود الفقري للنهضة الاقتصادية المقبلة في سوريا، ولاسيّما خلال مرحلة إعادة الإعمار التي يُتوقّع أن تضخّ في الاقتصاد السوري ما لا يقل عن خمسمئة مليار دولار. فبعد سنوات الحرب المدمّرة من جهة، وعقود من الانعزالية الاقتصادية في فترة حكم البعث من جهة أخرى، تجد سوريا نفسها اليوم في حاجة إلى كل شيء، وإلى إعادة بناء شاملة اقتصادية، وخدماتية، وزراعية، وصناعية، وتكنولوجية. ويمتلك السوريون في الداخل والمهجر القدرة والرغبة والمهارات والخبرة والمعرفة ورأس المال اللازم لقيادة هذا التحوّل، مما يجعلهم عنصرا فاعلا رئيسيا في صياغة النموذج الاقتصادي الجديد، القادر على الانتقال من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن الاقتصاد الموجَّه إلى اقتصاد السوق المنتج والمتنوع. وعلى عكس اللبنانيين، يمتلك سوريو الداخل والمهجر الرغبة في إعادة بناء بلدهم وتحديثه وإلحاقه بالعالم الحديث قولا وفعلا.
سوريا اليوم قادرة على أن تقدّم للعالم وللعرب ما لم يعد لبنان قادرا على تقديمه. فالنموذج الاقتصادي اللبناني السابق قد انتهى، ومعه الدور الذي كان يميّز لبنان في العالم والمنطقة. إن نجاح الدول يعتمد على قدرتها في ابتكار نموذج جديد أو تعديل النموذج القائم ليتماشى مع التطوّر والحداثة والمتغيرات السياسية والاقتصادية والتكنولوحية. وانطلاقا من هذه القاعدة، استطاعت سوريا إعادة بناء خطتها الاقتصادية بسرعة لافتة مع دعم دولي وإقليمي وعربي هائل، في حين ما زال لبنان، منذ عام 2019، عالقا في دوّامة الانهيارات والفشل من دون أي مؤشرات حقيقية للتقدّم والاستفادة من العديد من فرص الدعم الدولي والعربي المشروطة التي قُدمت له.
إنّ التحوّل الاقتصادي الجاري في سوريا يحمل أبعادا استراتيجية تتجاوز الإطار الاقتصادي الضيق، لتطال إعادة تشكيل موازين القوى في المشرق العربي. فمع انفتاح سوريا واندماجها مجددا في الأسواق الإقليمية والدولية، قد يتحوّل مركز الثقل الاقتصادي التاريخي من بيروت إلى دمشق، خصوصا إذا ترافق هذا الانفتاح مع استثمارات خليجية ودولية واسعة في البنية التحتية والطاقة والخدمات. فيما يزداد لبنان انكفاءً على نفسه ويتّجه أكثر فأكثر نحو العزلة عن العالم، على الرغم من مدّ يد العون الدولية والعربية لإنقاذه.
الحقيقة المرة التي علينا أن نتقبّلها في لبنان، أنه لم يعد لدينا الكثير لنقدّمه، بل على العكس، نخسر يوما بعد يوم ما تبقّى من ميزاتنا التنافسية، سواء بسبب التدهور السياسي والإداري، والفساد المستشري، أو بسبب عجزنا عن مواكبة التغيّرات الإقليمية والدولية، وانعدام الثقة الدولية والعربية فينا. لم نعد "مستشفى الشرق الأوسط" ولا "جامعته" ولا "متنفّسه". العالم تغيّر، والعالم العربي تغيّر، ونحن ما زلنا عالقين في دوّامة تاريخيّة نتطلّع فيها إلى الماضي، من دون أن نرسم خريطة طريق واضحة للمستقبل. نكتفي بالشعارات والوعود، فيما الأخطار تتكاثر أمام أعيننا. حمى الله ما قد يتبقى من لبنان.
نبض