الصدمة والذاكرة الجمعية في المجتمع اللبناني_ منظور أخصائية نفسية مستقبلية

منبر 13-11-2025 | 12:35

الصدمة والذاكرة الجمعية في المجتمع اللبناني_ منظور أخصائية نفسية مستقبلية

تتداخل الصدمة النفسية مع الذاكرة الجمعية بطريقة تجعل من الألم الفردي تجربة تتجاوز الشخص لتصبح جزء من تاريخ المجتمع كله، وخصوصاً في لبنان الذي عاش عقود من الحروب والانفجارات والأزمات السياسية والاقتصادية.
الصدمة والذاكرة الجمعية في المجتمع اللبناني_ منظور أخصائية نفسية مستقبلية
تعبيرية (مواقع تواصل)
Smaller Bigger

ليا ابرهيم 

 

 

تتداخل الصدمة النفسية مع الذاكرة الجمعية بطريقة تجعل من الألم الفردي تجربة تتجاوز الشخص لتصبح جزء من تاريخ المجتمع كله، وخصوصاً في لبنان الذي عاش عقود من الحروب والانفجارات والأزمات السياسية والاقتصادية. عندما يمر الفرد بتجربة مأساوية، فإن التأثير لا يقتصر على نفسه فقط، بل يمتد إلى المحيط الاجتماعي، ويغير العلاقات بين الناس. كأخصائية نفسية مستقبلية أرى أن فهم الصدمات يحتاج النظر إلى ثلاثة مستويات: الفرد، المجتمع، والثقافة. على المستوى النفسي، تظهر الصدمة في شعور القلق المستمر، الكوابيس، واسترجاع الحدث بشكل متكرر، وصعوبة التركيز. يشعر الشخص وكأن الزمن توقف عند لحظة الحدث، ويعود إليها كل مرة يسمع صوت مشابه أو يرى صورة تذكره بما حصل. الدماغ يخزن هذه التجارب بشكل عميق جداً من صور وأصوات وروائح تجعل النسيان صعب جداً. أحياناً يحاول الفرد أن يتجنب الحديث عن الحدث أو حتى أن ينكر ما حصل، ويستخدم الضحك أو الفكاهة السوداء كطريقة لحماية نفسه، وهذه تعتبر آليات للتأقلم.
على المستوى الاجتماعي، تتحول الصدمة إلى ذاكرة مشتركة بين أفراد المجتمع. علم الاجتماع يوضح كيف تتحول الأحداث المؤلمة إلى جزء من الهوية الجمعية. في لبنان بعد الأزمات والانفجارات، يظهر التضامن بين الناس في البداية، لكنه أحياناً يضعف بسبب التعب النفسي والاجتماعي. الناس يضعون صور الضحايا في الساحات، يكتبون شعارات على الجدران، ويقيمون مسيرات رمزية لإحياء ذكرى الأحداث. هذه الممارسات ليست مجرد حزن، بل طريقة لحماية الذاكرة من النسيان ولتثبيت السردية الجمعية. كذلك تنتقل الحكايات بين الأجيال، فيروي الجد أحداث الحرب للأطفال، فيكبرون على ذاكرة ليست تجاربهم الشخصية، بل جزء من التراث النفسي والاجتماعي للعائلة والمجتمع. هذه الظاهرة تجعل الأجيال الجديدة تحمل جزءاً من صدمة لم تعيشها مباشرة، ويصبح الحزن جزء من حياتهم اليومية بدون أن يفهموا أسبابه أحياناً.

أما من منظور الأنثروبولوجيا، فالطقوس الرمزية تلعب دوراً كبيراً في تذكر المجتمع للمأساة. في لبنان، الجنائز والزيارات للمقابر ليست مجرد وداع، بل هي وسيلة لإظهار الانتماء، الاحترام، والتضامن. ارتداء الأسود، تقديم القهوة المرة، نشر صور الضحايا، والزيارات العائلية المتكررة للمقابر، كلها طقوس تجعل الصدمة محسوسة ومرئية. الطقوس الرقمية ظهرت أيضاً مؤخراً: نشر أسماء الضحايا على وسائل التواصل، كتابة الشعارات التذكارية، ومشاركة الصور والفيديوهات الرمزية. هذه الطرق الجديدة تساعد على استمرار الذاكرة الجمعية وتجعلها حاضرة في كل مكان. ولكن أحياناً تصبح الذاكرة عبء على الأجيال الجديدة. الأطفال الذين لم يعيشوا الحدث مباشرة، لكن سمعوا عنه كثيراً، يشعرون بالخوف من الأصوات العالية أو أماكن معينة. الفتيات أحياناً يشعرن بعدم الأمان عند الظلام أو أصوات مفاجئة بسبب القلق الذي انتقل إليهم من الكبار. هذه الصدمة العابرة للأجيال تجعل الفرد يعيش في حالة خوف مستمرة بدون سبب مباشر. ومن هنا يظهر دور علم النفس في دراسة كيف تنتقل المشاعر عبر الأسرة والمجتمع وكيف يمكن التعامل معها بطريقة علمية وآمنة.
هناك أيضاً صراع على سرد الأحداث في لبنان. كل طرف يريد كتابة التاريخ بطريقته الخاصة، وهذا يؤدي إلى جروح اجتماعية عميقة. غياب الاتفاق على رواية واحدة يجعل الشفاء صعب. الكتب المدرسية غالباً تكتب التاريخ بشكل مختصر أو متقطع، وهذا يزيد من تشوش الذاكرة. في هذه الحالة، تصبح الذاكرة مجال للصراع وليس للتفاهم. علم الاجتماع يوضح أن الذاكرة الجمعية يمكن أن تتحول إلى أداة للسيطرة على الناس بدلاً من أن تكون وسيلة للشفاء أو التعافي النفسي. ومع ذلك، هناك جانب إيجابي. المجتمعات التي تعرضت لصدمات متكررة تظهر قدرة كبيرة على النهوض، وهذه ما تسمى المرونة النفسية. نرى في لبنان الناس يضحكون رغم الألم، يبدعون أعمال فنية من الخراب، ويحتفلون رغم الحزن. العلاج النفسي السردي يساعد الفرد على سرد قصته بطريقة تمنحه السيطرة على الحدث ويحوّل الألم إلى معنى يمكن التعامل معه في الحياة اليومية. عندما يسمح للفرد أن يعبر عن مشاعره بحرية، يمكن أن يبدأ الشفاء حتى لو لم ينسَ ما حدث.
كأخصائية نفسية مستقبلية أرى أن مهمتي ليست إزالة الألم عن الناس، بل تعليمهم كيف يحملونه بطريقة لا تكسرهم. سأستمع لهم أكثر من أن أعطيهم نصائح فقط، لأن الإصغاء يخلق مساحة للشفاء. الذاكرة ليست عدو، بل خريطة لفهم النفس والمجتمع. كل من يعرف كيف يقرأ هذه الخريطة يستطيع أن يجد طريقه للشفاء، ويساعد الآخرين على فعل الشيء نفسه. يجب أن نسمع الأصوات المخبأة، ونستعيد القصص، ونخلق رموز للذاكرة بطريقة تسمح للمجتمع بالمضي قدماً دون أن يفقد إنسانيته، وهذا سيكون جزء مهم من عملي المستقبلي. ومن خلال عملي، سأعلم الناس أن الصدمة ليست النهاية، بل بداية لفهم أنفسهم والمجتمع حولهم بطريقة أعمق وأكثر وعياً.

العلامات الدالة

مواضيع ذات صلة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/15/2025 3:17:00 PM
طائرة مستأجرة تضم فلسطينيين تختفي عن الأنظار ثم تهبط فجأة في جوهانسبرغ بظروف غامضة.
النهار تتحقق 11/15/2025 9:19:00 AM
"تقول السلطات إن الأمر كله مرتبط برجل واحد متهم...". ماذا عرفنا عن هذا الموضوع؟  
لبنان 11/15/2025 11:45:00 AM
وثّقت الحادثة كاميرا المراقبة، فيما لاذ المعتدي  بالفرار