صفحات منسيّة
ريمي الحويك
في المدرسة، رَسَموا لنا لُبنان كحُلمٍ حيّ، وطن ديمقراطيّ وجمهوريّ، حُرّ السّيادة، مُستقلّ الإرادة. قالوا إنَّ الإنسانَ فيه مُكرَّمٌ، والدستور درعه، والقانون سيفه العادل، وأنَّ العدالةَ لا تميّز بين وجوهٍ ولا طوائفَ، بل تسري كنسيمٍ عابرٍ للجميع.
صفَّقنا بحماسةِ الطّفولة، رَسَمنا الأرزة على دفاترنا، وغنّينا "كُلُّنا لِلوطن"... لكن ما لم يقُلْه لنا أحدٌ أنّ الوطن أحياناً يلوذُ بالغياب، وأنَّ الكُتبَ كَذِبٌ رقيقٌ مقارنةً بشوارعنا، وأنّ الحقيقة تُسطَّرُ بالعرقِ والدّم وتتناثر مع خيباتنا كأوراقِ خريفٍ حزين.

الدّستورُ ينشدُ كرامةَ الإنسان، ونحن نرى صورته تتحطّمُ. رجلٌ يُهان عند مستشفى لأنّ تأمينَه ضعيف، وآخر يُذَلّ في دائرةٍ رسميةٍ لأن توقيعَ زعيمٍ غائب. كأنَّ كرامتَنا تُقاسُ بالأختامِ لا بالقلب. كرامةُ الإنسان في بلادي تُقاسُ بالمحسوبيّة لا بالحقّ. المواطنُ الشّريف يختبئ كظلٍّ خائفٍ، والمذنبُ المحميّ يعلو فوق الجّميع كطاغيةٍ بلا حساب. حتّى الكلمة، تلك الّتي عَلّمونا أنّها حُرّةٌ، تُقمَع إذا خرجت عن المألوف، أو مَسّت مركزاً، أو كشفت وجهَ الحقيقة.
يقولون إنَّ السُّلطةَ من الشّعبِ وللشّعب… لكن أيّ شعبٍ هذا الّذي يُعَدُّ أرقاماً في صناديق الاقتراع؟ وأيّ شرعيّةٍ تبقى حين يُقدَّم الكرسيّ على كرامةِ المواطن، وتتنازع الطوائفُ الحقائبَ بلا مسؤوليات، فتنهار العدالةُ وتضيع القِيَم!
في بلادي، الفضائحُ تتوالى والسّياسيّ ينجو، وكأنّ ذاكرةَ الوطن ميتةٌ. تُصابُ بجلطةٍ كلّ أربع سنوات، فتنسى الخيانات وتُعيد انتخابَه.
في لبنان، المقاماتُ لا تُمسّ. من يرفع صوته يُتَّهَم بالخيانة، ومن يسكت يُتَّهَم بالرضوخ! أصبحنا شعباً يعيش تحت ظلال الرّموز بدل ظلّ القانون. كلّ زعيمٍ إلهٌ صغير في طائفته، وكلّ مواطنٍ عبدٌ كبير في صمته.
كنّا نسمع أنّ لبنان "قطعةٌ من السماء". اليوم نراه حفرةً في الأرض. جباله تُحفَر، أشجاره تُقطَع، وأنهاره تسيلُ نفاياتٍ وسواداً. لم نحفظ الوادي ولا البحر ولا النسيم. صارت الطّبيعة، مثل المواطن، تُنهَب وتُستنزَف باسم الاستثمار والمصلحة. أيُّ وطنٍ يبقى، إذا ما بيعت أرضُه بالشِّبر، وسُرِقَ رزقه بالأطنان؟
في لبنان، الموت صار رفاهيّة. إن كنتَ فقيراً، تموت على العتبة، وإن كنت غنيّاً، تموت في جناحٍ خاص.
القانونُ في لبنان يشبه شبكة صيدٍ مقلوبة. تقع فيها فقط الأسماكُ الصّغيرة. من سرقَ رغيفاً سُجِن، ومن سرقَ أموالَ الدّولةِ جالَ بين العواصمِ ببذلةٍ فاخرةٍ وابتسامةٍ لامُبالية. القضاء إمّا مُسَيَّس، وإمّا مُرهَق، وإمّا صامتٌ صمتَ القبور. والنّاس، بعدما فقدوا الثّقةَ به، صاروا يحكمون بعضَهم بعضاً بالكُرْهِ واليأس والانتقام.
حتّى الطّعام صار مُرّاً. الأسعار تُحلّق كلّ صباح، والدَّخْل يزحف كلّ مساء. في بلدٍ يُزرع فيه التّفاح والقمح والكرمة، نأكل المستورد ونشرب الغشّ، ونعيش على وعودٍ فاسدةٍ مثل الطّعام نفسه.
المدارس التي عَلّمتنا معنى الوطن تُغلق أبوابها. المعلّم، قدوتنا، صار يبيع كتبه ليؤمّن المعيشة. الطّالب الذي حلم بأن يكون طبيباً أو مهندساً صار يحلم بتذكرة سفر. التّعليم، سلاحُ الفقراء، كُسِر عن قصدٍ، لأنّ الجّاهل يُحكَم بسهولة.
في بلدٍ يُقال إنّه رسالة، تحوّل الدّين إلى رايةٍ تُرفع ضدّ الآخر. نصلّي لله الواحد، لكنّنا نقتل باسمه المختلف. نقرأ أنّ الله محبّةٌ، ونمارس في الواقع كراهيةً ممنهجة. الطوائفُ تحمي أبناءها، لكنّها تَذبح الوطن باسمِهِم.
نعم، لبنان ديمقراطيّ في الكتاب، جميلٌ في النّشيد، مقدّسٌ في الشِّعر. لكن في الواقع، هو مريضٌ منذ عقود ويرفض العلاج، وطنٌ يكذب على أولاده ويتركهم يتخبّطون في الظّلام والخيبات.
بيروت أمّ الشّرائع… أين ذهبتُم بميزان عدالتها؟
لبنان مستشفى الشرق… أين ذهبتُم بصحّته؟
لبنان بُرج المعرفة والعلم… كيف تركتم جامعاته تبكي على أحلام الطّلاب الميتة؟
لبنان بحر الحُريّات… كيف جرفتُم أمواجه وتركتموه غريقاً بلا شراع؟
لبنان بركة الأجداد… بماذا وخزتم أذرعهُم الّتي زرعت فينا الطّمأنينة والسّلام؟
لبنان ثوب قداسةٍ وإيمان… لماذا جرّدتموه من حِماه وتركتُموه عارياً أمام الريّح والدّموع؟
في الأيّام الأخيرة، ضلَّ الحقُّ طريقه في لبنان، وضربَ الجنونُ جذوعَ الحِكمةِ والأخلاق، فابتعدنا عن ربوعِ قيمِنا الإنسانيّة ولم يبقَ من يُصوِّبُ ضوءَ الخير... الجميعُ انكمشَ داخلَ خوفه الجّائر، وتناسلَ القتلُ والتزويرُ والقدحُ والزَّمُّ والتّهديد، وكلّ السّلوكيّات المقيتة... حتّى سقطَ القناعُ بكلّ أبعاده، وتُرِكَ وجهَ لبنانَ دون من يحفظ ماءَهُ.
مع ذلك، ورغم كلّ شيء، ما زلنا نؤمن بأنّ تحت هذا الرُّكام وطناً لم يمُت بعد، وأنّ جيلاً ما سيكتب من جديد كُتب التّربية الوطنيّة، لا كما يريدها الظّالم، بل كما يريدها الله.
باسمِ مواطنٍ مقهورٍ لا يزالُ يحفَظُ النّشيدَ عن ظهرِ وجعٍ لا عن ظهرِ قلبٍ، وبصوتِ لُطفي بوشناق المُتأوِّه، "خذوا المراكز والكراسي، خذوا المناصب… لكن خلّوا لي الوطن".
نبض