أندلس برلمانية
المحامي ربيع حنا طنوس
كان المعتمِد بن عبّاد ملكاً على إشبيلية، يكتب الشعر بمداد الذهب، ويُغذّي عرشه من وجعه، كأنما كان ينسج القصيدة من خيوط قدره. وحين تداعت حوله الممالك، وتكاثرت عليه الخيانات، وجد نفسه وحيداً على ضفاف المنفى، يكتب على الرمل سيرة مملكةٍ ضاعت بين البذخ والخذلان. لم تكن تلك الممالك الغاربة مجرّد فصل من التاريخ بل نبوءة تستعاد كلّما غلب الهوى على العقل وتحوّل الولاء للأرض ولاءً للذات.
وفي لبنان، كأن الزمان دار دورته من جديد. فهنا ايضاً يتنازع الملوك عروشهم الصغيرة، يبدّلون التيجان بالمقاعد، والقصور بصناديق الاقتراع، لكنهم ينسون أن الأوطان لا تُبنى بتقاسم السلطة بل بالتشارك لبناء دولةٍ. اللبنانيون كأبناء تلك المملكة الغاربة، يعيشون في أرخبيل من الولاءات، كل جزيرةٍ ترفع علمها وتظنّ نفسها الوطن كله.
اما الاغتراب فليس سهواً جغرافيا البلاد، بل جرحاً في ذاكرتها. فالمغترب لا يهاجر ليتنصّل من وطنه، بل ليحمله معه في صمته ولهجته وذكرياته. وحين يمدّ يده إلى صناديق الاقتراع، يقال له إن الوقت لا يكفي، وأن البطاقة الممغنطة لم تُجهّز بعد، وإنّ التقنية تعجز عن احتساب المسافة بين بيروت وعواصم العالم. وهكذا يتحوّل الحق إلى منفى آخر والصوت إلى قصيدةٍ لا يُسمع صداها.

لقد كان مجلس النواب، في كل محطةٍ مفصلية، أمام امتحانٍ وطني لا إداريّ. فالمسألة لم تكن يوماً في العدّ والفرز، بل في الاعتراف بان الاغتراب جزءٌ من الهوية اللبنانية لا يمكن محوه، وبأن صوت المغترب هو شاهدٌ على ان لبنان يعيش في كل منفى كما يعيش في كل ذاكرة.
إنّ تأجيل حقّه في الانتخاب، أو ربطه بالذرائع اللوجستية… ليس سوى محاولة لتقزيم الوطن بحجّة التنظيم وتجميل الإقصاء بطلاء القانون.
فلبنان اليوم يشبه تلك اللحظة الأندلسية الأخيرة: جميل بما يكفي ليُبكى عليه، وممزق بما يكفي ليصعب انقاذه. غير أن الفارق أن التاريخ لم يُغلق صفحاته بعد، وأن اللبناني إن استفاق من سحر الطائفة وتذكر أن صوته أرفع من كلِ تاج، قد يكتب الصفحة التي عجز المعتمِد عن كتابتها: صفحة الوطن الممكن، الذي لا يُنفى فيه أحد ولا يُلغى فيه صوت، ولا تضيع فيه البلاد بين ملوكها.
نبض