المملكةُ الخضراء، من صمتِ الصحراءِ إلى صوتِ العالم
                                    ريمي الحويك
في زمنٍ تتسارعُ فيهِ التحوّلاتُ، وتُعادُ فيهِ كتابةُ خرائطِ العالمِ الفكريةِ والثقافيةِ والسياسيةِ، برزت المملكةُ العربيةُ السعوديةُ بصفتها لاعباً جديداً في معادلةِ التوازنِ بين الأصالةِ والتجديدِ. لم تكتفِ المملكةُ بأن تكونَ حاضنةً للتراثِ والدينِ، بل قرّرت أن تكونَ أيضاً منصّةً للحوارِ، وورشةً للفكرِ، ومسرحاً للفنّ، وملعباً للرياضةِ، ومختبراً للتقنيةِ والذكاءِ الاصطناعيِّ، وجسراً للسِّلمِ الإقليميِّ والعالميِّ، وأرضاً تزخرُ بطبيعةٍ أخّاذةٍ وآثارٍ تحكي تاريخَ الإنسانيةِ مدى آلافِ السنينِ.
لقد فتحت السعوديةُ البابَ العاليَ، لا لتُغيّرَ صورتها فحسب، بل لتُعيدَ تعريفَ دورها في العالمِ الحديثِ، من دولةٍ تكتفي بالمراقبةِ إلى دولةٍ تصنعُ المشهدَ، وتؤمنُ بأنّ القوّةَ الناعمةَ، ثقافةً وفنّاً وفكراً وسياسةً، هي الامتدادُ الطبيعيُّ لقوّتها الاقتصاديةِ والدينيةِ والطبيعيةِ. ومن خلال هذا البابِ المفتوحِ، خرجت المملكةُ بثوبٍ جديدٍ يُزاوجُ بين الجذورِ والآفاقِ، بين الرؤيةِ والواقعِ، وبين الإنسانِ السعوديِّ والعالمِ الذي يتشكّلُ من حوله، وبين الصحراءِ والجبالِ، والوديانِ الساحرةِ، والسواحلِ المُمتدّةِ، والأحياءِ التاريخيةِ التي تحملُ بصماتِ حضاراتٍ متعاقبةٍ.

لقد كانت رؤيةُ 2030 نقطةَ الانطلاقِ، لكنّ التحوّلَ تجاوزَ الأرقامَ والمشروعاتِ إلى إعادةِ تعريفِ مفهومِ الدولةِ الحديثةِ في سياقٍ عربيٍّ خاصٍّ. فالسعوديةُ لا تسعى إلى التحديثِ من الخارجِ، بل من الداخلِ، عبر إعادةِ صوغ العلاقةِ بين الهويةِ والانفتاحِ، بين الثابتِ والمتحوّلِ، بين القيمِ الراسخةِ وروحِ العصرِ المتسارعةِ. ومن هذا المنطلقِ، تمَّ الاعتناءُ بالمواقعِ الطبيعيةِ والآثارِ التاريخيةِ، مثل الدرعيةِ العريقةِ، وجبالِ الطائفِ، وصحراءِ الربعِ الخالي، وواحاتِ العلا، لتصبحَ جزءاً من الهويةِ الوطنيةِ، ومصدراً للزوارِ من الداخلِ والخارجِ، ورمزاً للتوازنِ بين الماضي والمستقبلِ.
وفي هذا السياقِ، برزت الحريةُ الشخصيةُ وحقوقُ المرأةِ أحد أبرزِ عناوينِ التحوّلِ الاجتماعيِّ. فالمملكةُ، التي تنطلقُ من ثوابتها الدينيةِ والإنسانيةِ، وضعت الإنسانَ، امرأةً كان أم رجلاً، في صميمِ مشروعِها التنمويِّ، إيماناً بأنّ التقدّمَ الحقيقيَّ لا يُقاسُ بما يُبنى من ناطحاتِ سحابٍ، بل بما يُرسّخ من قيمِ العدالةِ والكرامةِ.
شهدت السنواتُ الأخيرةُ تحوّلاً نوعيّاً في تمكينِ المرأةِ السعوديةِ، التي أصبحت شريكةً في القرارِ الاقتصاديِّ والسياسيِّ والثقافيِّ، تقودُ، وتبدعُ، وتشاركُ في صوغ المستقبلِ. لم تعد المرأةُ مجرّد متلقٍّ للتحوّلِ، بل باتت فاعلاً أساسياً فيهِ، تفتحُ أبواباً جديدةً في التعليمِ، وريادةِ الأعمالِ، والإدارةِ، والتمثيلِ الدوليِّ.
أما الحريةُ الشخصيةُ، فقد باتت تعبيراً عن وعيٍ ناضجٍ يُوازن بين الانفتاحِ والمسؤوليةِ، بين احترامِ الخصوصيةِ الفرديةِ وصونِ القيمِ المجتمعيةِ. فالمجتمعُ السعوديُّ الجديدُ لا يرى الحريةَ تهديداً، بل طاقةً تُغني المشهدَ الوطنيَّ وتُساهمُ في بناءِ إنسانٍ متصالحٍ مع ذاته ومع العالمِ من حوله.
في الفنّ والسينما والثقافةِ، أصبحت المملكةُ منارةً جديدةً في الشرقِ الأوسطِ. من مهرجانِ البحرِ الأحمرِ إلى هيئةِ المسرحِ والموسيقى والفنونِ، ومن المعارضِ العالميةِ في الرياضِ وجدةَ والدرعيةِ، تكتبُ السعوديةُ اليومَ سردها الثقافيَّ بيدها، وتقدّمُ للعالمِ وجهاً آخرَ من وجوهِ العروبةِ المعاصرةِ. الفنّ لم يعد ترفاً، بل لغةً وطنيةً تعبّر عن الوعيِ الجَماعيِّ الجديدِ.
أما الرياضةُ، فقد تجاوزت حدودَ المنافسةِ لتصبح أداةً ديبلوماسيةً ناعمةً تعبّر عن حضورٍ عالميٍّ ذكيٍّ.
استضافةُ البطولاتِ الكبرى، وجلبُ نجومِ العالمِ إلى الدوري السعوديِّ، والاستثمارُ في الرياضةِ كصناعةٍ، دلائلٌ على أنّ المملكةَ تسعى الى ان تكون لاعباً محورياً في ميدانٍ يوحّدُ الشعوبَ ولا يُفرّقها.
وفي ميدانِ العولمةِ والذكاءِ الاصطناعيِّ، تتحرّك السعوديةُ بثقةِ الدولِ التي تُدرك أنّ المستقبلَ ليس لمن يملك النفطَ فحسب، بل لمن يملك المعرفةَ.
أنشأت المملكةُ مراكزَ بحثٍ متقدّمةً، واستثمرت في التعليمِ الرقميِّ والاقتصادِ المعرفيِّ، لتؤكّد أنّ النهضةَ الحقيقيةَ لا تُبنى بالحجرِ وحده، بل بالعقلِ الذي يبتكرُ، ويصوغُ معادلاتٍ جديدةً لعصرٍ جديدٍ.
ثم يأتي البعدُ الأعمقُ، السياسةُ والسِّلمُ الإقليميُّ والعالميُّ. فالسعوديةُ اليومَ لا تنخرطُ في السياسةِ من موقعِ النفوذِ فحسب، بل من موقعِ المسؤوليةِ التاريخيةِ. هي الوسيطُ الذي يسعى إلى تخفيفِ النزاعاتِ، وإعادةِ بناءِ الجسورِ بين الشرقِ والغربِ، وتثبيتِ لغةِ الحوارِ في زمنٍ تضجّ فيه الحروبُ بالضجيجِ والدمارِ. من جهودِ التهدئةِ في اليمنِ، إلى الحوارِ مع إيرانَ، إلى دعمِ الاستقرارِ في المنطقةِ العربيةِ، تكرّس المملكةُ ديبلوماسيةَ التوازنِ والواقعيةِ التي جعلتْ منها رقماً صعباً في معادلاتِ السِّلمِ الإقليميِّ والعالميِّ.
وفي قلبِ هذا المشهدِ، يبقى الإنسانُ السعوديُّ محورَ المشروعِ بأكملهِ، الإنسانُ الذي يتعلّمُ، ويبتكرُ، ويغنّي، ويشاركُ في العالمِ من دون أن يفقدَ هويّتَهُ. إنه جيلٌ جديدٌ يعرفُ قيمتَهُ، ويعي أنّ قوّتَهُ لا تُقاسُ بعددِ المصانعِ أو الأبراجِ، بل بعددِ العقولِ التي تُفكّرُ، والقلوبِ التي تؤمنُ بالمستقبلِ.
وهكذا، لم تفتح السعوديةُ البابَ العاليَ على مصراعيهِ لتُدخلَ الرياحَ كيفما شاءت، بل فتحتهُ بوعيٍ ومسؤوليةٍ لتُدخلَ النورَ، وتشاركَ العالمَ رؤيتَها لا تبعاً له، بل نِدّاً وشريكاً في صناعةِ الغدِ.
وفي قلبِ هذا التحوّلِ، يقفُ الإنسانُ السعوديُّ، رجلاً وامرأةً، حاملاً أحلامَهُ وحقوقَهُ، مبدعاً وفخوراً، يكتب قصصَهُ بيده، ويرسم المستقبلَ بقلبه وعقله. جيلٌ جديدٌ يعرفُ قيمتَهُ، ويعلم أنّ قوّتَهُ لا تُقاسُ بما يملكُ من مبانٍ أو مشاريعَ، بل بما يملكه من إرادةٍ، وحريةٍ، ووعيٍ، ومحبةٍ للحياةِ.
إنّ ما نشهده اليومَ ليس مجرّد نهضةٍ سعوديةٍ، بل إعادةُ صوغ للوعيِ العربيِّ في زمنٍ يطلبُ من الأممِ أن تختارَ، إمّا العزلةَ وإما المشاركةَ. وقد اختارت السعوديةُ أن تكونَ في قلبِ العالمِ، لا على هامشِه.
    
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                            
                                                                        نبض