حكمةُ الموت

منبر 03-11-2025 | 10:21

حكمةُ الموت

ان قبول زوالية الحياة يبقى العقبة الأكثر صعوبة، إذ كيف لي أن أقبل ذاك العدو الذي ينتزع منّي "أنَاي"؟ كما يسأل بمرارة ميغال أونامونو! وأُدركُ مع هايدغر "أنّي الكائن الوحيد الذي يعي موته؛ وأن حياتي ليست سوى مسيرة نحو العدم". ومع سارتر أشعر بأنّ "الحياة شهوة عقيمة، ومن العبث أن أولد وأنني سأموت". 
حكمةُ الموت
Smaller Bigger

فادي بو راشد
أستاذ في كلية اللاهوت والعلوم البيبلية
الجامعة الأنطونية

 

"مجد الإنسان كعشب السطوح، ما يلبث أن ينبُت، حتى ييبس فلا يكون"... هذا ما قاله الكتاب المقدّس قبل أكثر من ألفَي سنة، وهذا ما جسّده بإتقان تام الفنّان الإسباني Valdés Leal، في لوحَتين مؤثّرتَين من القرن السابع عشر: الأُولى بعنوان "في طرفة عين"، والثانية "نهاية أمجاد العالم". وكلتاهما تشهد على حتميّة الموت وزوال مجد الدنيا. لا شكّ في أن الموت هو الحقيقة الثابتة الوحيدة لكل مولود في هذا العالم: "أيحيا الإنسان ولا يرى هوّة الموت؟ إنّه دار ميعاد كلّ حيّ، وإليه جميعنا نُقاد. فالموت نهاية كل إنسان، والحيّ يدرك ذلك في قلبه". ولَكَم هو مرير ذاك الواقع الذي يرافق الإنسان نحو فنائه الأخير: "متاعب كثيرة خُلقت لكلّ إنسان، ونيرٌ ثقيل وضع على بني آدم، منذ يوم خروجهم من بطون أمّهاتهم، حتّى يوم عودتهم إلى باطن أُمّ جميع الناس". غير أن قبول زوالية الحياة يبقى العقبة الأكثر صعوبة، إذ كيف لي أن أقبل ذاك العدو الذي ينتزع منّي "أنَاي"؟ كما يسأل بمرارة ميغال أونامونو! وأُدركُ مع هايدغر "أنّي الكائن الوحيد الذي يعي موته؛ وأن حياتي ليست سوى مسيرة نحو العدم". ومع سارتر أشعر بأنّ "الحياة شهوة عقيمة، ومن العبث أن أولد وأنني سأموت". لقد سعت الثقافة الغربية المتعلمنة إلى تفادي لغز الموت لعجزها عن مواجهته مباشرة، فعملت على طمسه بتدابير عديدة عند حدوثه، كما يحصل غالباً في المستشفيات، حيث يموت المرء وحيداً وسط طنين آلات وأنابيب مخيفة. وهكذا فإنّ حضارة اليوم، بما فيها من تصحّر روحيّ وفراغ، تحاول أحياناً تغطية حقيقة الموت والهرب منه قدر الإمكان. ويصحّ فيها قول يشوع بن سيراخ: "مُنكِرُ الموت يحيا في ضلال". غير أنّ استبعاد الموت له أثمان، أقلّها إفراغ الحياة من معناها، وجدّيتها. يقول كاتب المزامير: "علّمني يا ربُّ أنّ أيّامي معدودةٌ، فتدخل الحكمةُ إلى قلبي" (مزمور 90: 12)، حكمة تقيس سرعة مرور الحياة، لأن العمر أسرع من العدّاء، ومن مكوك الحائك. والحكمة تغربل القمح وتفصله عن القش والزؤان، ليتمسّك المرء بما هو صالح، فلا يبدّد وقته عبثاً بين أكداس القشّ ووهدة الفراغ. فسنوات حياتنا تمرّ سريعاً مرور الطير، والكلام هنا أيضاً للمزمور 90. في المقابل، أكبّ عدد من اللاهوتيين والمفكرين على استعادة مكانة الموت في الفكر الفلسفي واللاهوتي الحديث، لأنّ في ذلك ضرورةً لأنسنتنا. فالموت يضعنا عراة أمام ضعفنا وزوالنا، ويحثّنا على البحث عن غاية وجودنا ومعناه. إنه بمثابة غربال للحقائق كلّها. ولا مغالاة في القول: "إننا في كلّ مرة نفكر فيها بالموت، نصبح أكثر ذكاءً". أوليس في الموت تتساوى صولجانات الملوك بمعاول الفلّاحين كما قيل قديماً؟ ألا يمكن لذكر الموت أن يشفي أفكارنا السقيمة من أكبر أمراضها، كعقدة العظمة وهستيريا تأليه الذات؟ أو من ذاك الشعور المَرَضيّ بالفوقيّة، التي تُوهم الإنسان بأنه خالد لا يموت؟ لا بل كيف لنا أن نتناسى قول صاحب المزمور: "باطل بنو آدم، وزورٌ بنو البشر، جميعهم في الميزان أكثر ارتفاعاً من الباطل!"؟ 
من بين كبار المفكّرين الّذين تناولوا مسألة التفكّر في الموت من المنظور المسيحيّ، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، كارل راهنر (1904-1984)، وهانس أورس فون بالتازار (1905-1988). ويمكن عموماً، أن تُستخلص من فكرهما نقاط عدّة تضيء قضيّة الموت في الكثير من جوانبها، على الرغم من مقاربَتَيهما لسرّه من منطلقات أنثروبولوجية ولاهوتية متمايزة لا يمكن توليفها. ولكن إذا وضعنا رؤيتَيهما في أفق روحيّ واحد، حصلنا على خلاصة غنيّة بالفكر، واللاهوت، والروحانيّة. بالنسبة إليهما، "الموت بدايةً، ليس مجرّد واقع بيولوجيّ يتحقّق تدريجاً في حياة الإنسان، بل هو حدث شخصيّ تكتمل فيه حرية الفرد بعد مسيرة من القرارات التي اتخذها بفعل إرادته الحرة، والتي ستُحدّد مصيره ووجهته النهائية أمام الله. وعليه، يشكل الموت ختماً لمسيرة الحرية إذ به تصبح حالة ثابتة وأبديّة. ما من أحد يموت وحيداً، لأن الموت يحصل أمام الله المحبّ، حيث يسلّم الإنسان ذاته بثقة تامة، كما فعل المسيح لحظة موته على الصليب. الحياة والموت متلازمان والإنسان لا يفقد بموته هويّته الشخصيّة، بل يصل إلى ملء كيانه في حضن محبّة تفوق كل تصوّر. لا يمكن للإنسان في حضن هذه المحبّة، أن يفعل شيئاً سوى الاستسلام الخاضع ليتحد أبديّاً بالله خالقه". ممّا تقدم، يظهر جلياً أنّ "الموت هو أمرٌ خصوصيّ نختبره وندخل فيه بناءً على تاريخنا الشخصيّ وخياراتنا مع الله أو ضده. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو أيضاً واقع كنسيّ إذ لا يدخل أحدٌ إليه بمعزل عن المسيح الذي ذاقه ليهب الحياة بوفرة وفوق كلّ توقّع. بالموت، تكتمل الحريّة ويظهر الإنسان على حقيقته بدون قناع؛ به تتحقّق الشراكة التامة مع الله أو يقع الشرخ الذي لا يمكن رأبه". لذا، تقع على عاتق المؤمن مسؤولية الجُرأة في الإيمان، والرجاء، والمحبّة، ليكون موته لقاء حبّ أكيد مع الله الرحيم والحنون، والذي عنده للموت مخارج. وراء حجاب الموت الصامت والنهائي، يجد الإنسان نفسَه محبوباً إلى أقصى درجات المحبة. وحيث يبدو أن الموت أغمض أجفان الإنسان إلى الأبد، تتفتّح عيناه على ذاك النور الذي لا يغيب، بانتظار قيامة مجيدة لحياة لا تذوي. ربما لن نفهم الموت مليّاً إلّا حين نختبره فيمن نحبّهم. حينها فقط، سندرك أنه ليس غياباً بقدر ما هو اكتمال صامت في أعماق سرّ لا يُسبر غوره. هناك عظةٌ حول الموت تُنسب خطأً إلى القديس أغسطينوس، لكنها في الواقع تعود إلى اللاهوتيّ البريطانيّ Henry Scott Holland، ألقاها في الثامن من أيّار عام 1910، بعد يومَين من موت الملك إدوارد السابع، عنوانها مُعبّر للغاية: “Death is Nothing at All” حيث يقول: "الموت لا شيء على الإطلاق. أنا عبرت فقط إلى الغرفة المجاورة. نادوني بالاسم الذي كنتم تنادونني به دائماً... وتحدثوا إليّ كما كنتم تفعلون، لأن الحياة تعني ما كانت تعنيه دائماً، وخيطها لم ينقطع..." جميلة هذه الكلمات، وجميلٌ أن نستعيدها في تذكار موتانا. والمناسبة تفرض أن يتذكّر الأحياء موتاهم ويتأمّلوا في موتهم الشخصيّ أيضاً. كما أنّ الحكمة تقتضي ألّا ننسى أننا لا نَعلَمُ مَتى تكون رحلتنا من هذه الدُّنيا، إذ سيأتي يومٌ نفكّ فيه خيمتنا الأرضيّة، ونتعرّى من ثوبنا الأرضيّ، عالمين أن لنا وطناً أفضل، يُشبِعُ الله فيه إنساننا الباطن إلى المنتهى. إنّه المكان الذي وعد المسيح أن يأخذ أحبّاءه إليه ليكونوا حيث هو يكون. لأنه القيامة والحياة. وكلّ من يحيا مؤمناً به، لا يموت أبداً (يوحنا 11: 26). لذا، ما علينا الآن سوى الاستعداد واليقظة، لأننا لا نعرف في أيّ ساعة يأتي الموت كالسارق. فإن شاح نظرنا عن السماء، فلن نرى أمامنا سوى أُفق الأرض الزائل. وفي الختام، أترك الكلمة للقدّيس أوغسطينوس، لعلّه يستحثّ فينا أعمق ما نرجوه في الحياة الأبدية: "هناك، في السماء، سنرتاح ونحبّ، سنحبّ ونمجّد. هذا ما سيحصل في النهاية، بلا نهاية". آمين.  


الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/2/2025 7:34:00 PM
أفادت شبكة "سي أن أن" الأميركية، استناداً إلى مصادر استخباراتية أوروبية، بأن هناك دلائل إضافية على جهود الجمهورية الإسلامية لإعادة تأهيل قدرات وكلائها، وعلى رأسهم "حزب الله"
ثقافة 11/1/2025 8:45:00 PM
بصمة لبنانية في مصر تمثّلت بتصميم طارق عتريسي للهوية البصرية للمتحف المصري الكبير.
ثقافة 11/2/2025 10:46:00 AM
"والدي هو السبب في اكتشاف المقبرة، وكان عمره وقتها 12 عاماً فقط سنة 1922."