أزمة الكفاءة في النظام اللبناني

منبر 03-11-2025 | 10:03

أزمة الكفاءة في النظام اللبناني

بين الولاء والكفاءة، يقف لبنان عند مفترق طريقٍ يحدّد مصيره السياسي والإداري. فحين تُقدَّم الانتماءات على الجدارة، تضعف الدولة ويتعطّل الإصلاح. إنّ أزمة الكفاءة ليست تفصيلاً إداريا، بل أزمة هويةٍ وطنية تُعيد طرح السؤال الجوهري: من يستحقّ أن يقود الدولة: المخلص لحزبه أم الكفوء لوطنه؟
أزمة الكفاءة في النظام اللبناني
علم لبنان
Smaller Bigger

حيدر الأمين

 

 

بين الولاء والكفاءة، يقف لبنان عند مفترق طريقٍ يحدّد مصيره السياسي والإداري. فحين تُقدَّم الانتماءات على الجدارة، تضعف الدولة ويتعطّل الإصلاح. إنّ أزمة الكفاءة ليست تفصيلاً إداريا، بل أزمة هويةٍ وطنية تُعيد طرح السؤال الجوهري: من يستحقّ أن يقود الدولة: المخلص لحزبه أم الكفوء لوطنه؟
منذ انتهاء الحرب الأهلية باتفاق الطائف، عانت مؤسسات الدولة اللبنانية وتعاني ضعفاً بنيوياً على المستويين الإداري والعلمي، ما انعكس شللاً في مسار الإصلاح والتنمية. ويعود السبب في ذلك إلى تغليب الانتماء الحزبي والطائفي على مبدأ الجدارة، إذ تُمنح المناصب بالولاء لا بالكفاءة، وتُدار المواقع الحسّاسة بالمحسوبيات لا بالخبرة. وبهذا المنطق، تُفرَّغ الانتخابات النيابية من مضمونها الحقيقي، وتتحوّل الديموقراطية في مؤسسات الدولة إلى واجهةٍ شكليةٍ لسلطةٍ تفتقر إلى الفعالية.
من الولاء إلى الكفاءة
لا يمكن إنكار الدور المهم الذي تؤديه الأحزاب في الحياة الديموقراطية، شرط أن تكون برامجها موجّهة نحو تحقيق المصلحة العامة. فقد تساهم في تنشيط الوعي السياسي وتنظيم المشاركة العامة، إلا أنّ بناء دولة القانون يرتكز أساساً على مؤسسات قوية ومستقلة، يقودها أصحاب الخبرة والمعرفة لا أصحاب النفوذ والانتماءات. وتُظهر التجربة اللبنانية أنّ تغليب الولاء الحزبي أو الطائفي على الكفاءة يؤدي إلى إضعاف مؤسسات الدولة وتعميق الانقسام الداخلي. أمّا الكفاءة، فهي معيار وطني جامع يتخطى الحواجز الحزبية والطائفية، ويتيح لكلّ مواطن فرصة المساهمة في خدمة الوطن على أساس القدرات لا الانتماءات.

حكمة الإمام عليّ: رؤية إصلاحية خالدة
من أعمق ما كُتب في فلسفة الحكم الصالح، ما قاله الإمام عليّ (ع) في عهده إلى مالك الأشتر حين ولاّه مصر: "ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولِّهم محاباةً وأثرةً، فإنهما جماعٌ من شعب الجور والخيانة. وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة...". هذه الكلمات تختصر جوهر الدولة العادلة: اختيار الأكفّاء قبل الأقرباء، ورفض المحاباة والقرابة كمصدرٍ لكلّ ظلمٍ وفساد. وفي نهج البلاغة يقول: "أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحبّ إليه وإن نقصه، من الباطل وإن جرّ إليه فائدةً وزاده". إنّها دعوة صريحة إلى تقديم الحقّ على المصلحة، والكفاءة على الولاء، لتستقيم الدولة وتستقرّ العدالة.

الكفاءة والعدالة: مشروع دولة متكاملة
إنّ ما ورد في فكر الإمام عليّ ليس مجرّد وصيّةٍ دينية، بل مشروع حكمٍ مدنيٍّ متكامل يقوم على أسس العدالة والمساءلة وتكافؤ الفرص.
فقد دعا إلى اختيار أهل الخبرة، ومحاسبة المسؤولين، ومحاربة الفساد، وتقديم خدمة الناس على مصالح الحكّام، وهي المبادئ ذاتها التي تنادي بها اليوم أنظمة الحوكمة الحديثة. وقال الإمام عليّ أيضاً: "لا ينبغي أن يكون الوالي البخيل فيطمع في أموال الناس، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق...". فالدولة لا تُبنى بالشعارات ولا بالولاءات، بل بالكفاءة والعدل، باعتبارهما القانون الأعلى فوق كلّ انتماءٍ سياسي أو طائفي.

قانون الكفاءة: نحو تمثيلٍ وطنيٍّ حقيقي
إنّ سنّ قانونٍ يربط الترشّح للمناصب العامة بالمؤهلات العلمية والخبرة العملية لا يحدّ من حرية المواطن، بل يصونها. فهو يضمن أن تكون الخيارات الانتخابية أكثر وعياً، وأن يتحوّل البرلمان من ساحةٍ للمزايدات إلى منبرٍ للنقاش المسؤول وصناعة القرار الرشيد. القانون القائم على الكفاءة لا يُقصي الطبقات الشعبية، بل يرفع من مستوى التمثيل الوطني، بحيث يجمع بين الإرادة الشعبية والعقل المؤهَّل لخدمة المصلحة العامة.

الكفاءة طريق الخلاص
لقد أثبتت التجربة أنّ تقدم الولاء الحزبي والطائفي على الديموقراطية ينتج الفوضى ويلغي الكفاءة ويسير بالنظام الديموقراطي على طريق الاستبداد. أما الجمع بينهما، فهو الطريق إلى الدولة الحديثة التي يحكمها العلم وتنهض بالعدالة. فلبنان، الخارج من دوّامة الأزمات، لا يحتاج إلى مزيدٍ من الأحزاب والشعارات، بل إلى عقولٍ مؤهّلة وإداراتٍ نزيهة. فالديموقراطية الحقيقية تتمثل في اختيار القادرين على خدمة الوطن. والكفاءة، لا الولاء، هي الممرّ الإلزامي لبناء دولة القانون والكرامة والنهضة.

نحو إصلاحٍ مؤسسيٍّ قائمٍ على الكفاءة
إنّ تجاوز أزمة الكفاءة في لبنان يتطلّب إرادةً سياسيةً جادّة تبدأ بإصلاح منظومة التعيينات العامة لتُبنى على أسس الجدارة والاختصاص لا على الولاءات والانتماءات. فإعادة تفعيل دور مجلس الخدمة المدنية، وتحديث نظام الوظيفة العامة، وتطوير برامج إعداد القيادات الإدارية في الجامعات ومراكز التدريب الوطني، تمثّل خطواتٍ أساسية نحو بناء مؤسساتٍ حديثة تحكمها الكفاءة لا المحسوبية. غير أنّ الإصلاح الحقيقي لا يكتمل بالإجراءات الإدارية وحدها، بل يحتاج إلى قرارٍ وطنيٍّ شجاع يرفع معيار الكفاءة إلى مرتبة القانون الملزم، ويعيد الاعتبار للعلم والخبرة شرطاً للتقدّم في أيّ موقعٍ عام. فلبنان لن يخرج من أزماته بالشعارات ولا بالتسويات الطائفية، بل بإطلاق طاقات العقول لا برفع بطاقات الولاء والانتماء، وبالانتقال من ثقافة الزعامة إلى ثقافة الخدمة العامة. عندها فقط يمكن أن تقوم دولة العدالة، ويُصبح الولاء الأول للوطن، لا للحزب أو الطائفة.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/2/2025 7:34:00 PM
أفادت شبكة "سي أن أن" الأميركية، استناداً إلى مصادر استخباراتية أوروبية، بأن هناك دلائل إضافية على جهود الجمهورية الإسلامية لإعادة تأهيل قدرات وكلائها، وعلى رأسهم "حزب الله"
ثقافة 11/1/2025 8:45:00 PM
بصمة لبنانية في مصر تمثّلت بتصميم طارق عتريسي للهوية البصرية للمتحف المصري الكبير.
ثقافة 11/2/2025 10:46:00 AM
"والدي هو السبب في اكتشاف المقبرة، وكان عمره وقتها 12 عاماً فقط سنة 1922."