حِينَ تُصْبِحُ السُّخرِيَة عاهةً في الضَّميرِ
ريمي الحويك
هناك لحظات، حين ينزلق اللّسان إلى ما هو دون الإنسان، تسقط صفة الإنسانيّة عن صاحبه. كَتبَ أحدهم بسخريةٍ جوفاء "كيف لي أن أطلب يد مي شدياق؟ انكسرت مسكة الباب لدي وأريد مسكة بلاستيك". أراد أن يسخر فإذا به يرتكب جريمة. أدنى ما يُرتجى من سلطة القانون، هو استدعاء ذلك المخلوق أمام العدالة وإحقاق الحق، فكرامة المواطن ليست تحت تصرّف نفوس مريضة ومشوّهة.
لم تكن زلّة لسان، ولا مزحة عابرة، بل انتهاك للألم الذي تحوّل إلى صمود.
مي شدياق لم تفقد يدها في حادث عابر. لم يسقط جسدها مصادفةً، بل حاولت أيادي الظلام إسكات صوتها، انفجرت تحت ركام القنبلة. لكنها بقيت حيّة، روحها بقيت حيّة، أقوى من كل حقدٍ حيّة، أعمق من كل خوفٍ حيّة، أنقى من كل تهكّم حيّة، ورغم أنف الحاقدين حيّة، وحُرّة، وجميلة، رغم قُبح القبيحين، جميلة.

يدُ النّور، يدُ مار شربل امتدّت لتنتشل مي من عنق الموت، من عنقِ الغدر، فغدت شهادتها شهادتَان، شهادة نجاة، وشهادة إيمان.
مي شدياق ليست مجرّد اسم على شاشات الإعلام. هي قصّة بقاء في مواجهة الموت، امرأة أصيبت جسدياً لتظلّ روحها مستقلّة، امرأة احتضنت الأسى لتجعله نوراً في قلب الحرية.
حين يسخر أحدهم من هذا الألم، لا يكون الحديث عن فكاهة، بل عن سقوط أخلاقي واضمحلال إنساني، عن ضمير يشوّه ذاته البشرية قبل الآخرين. السخرية من جروح الغير ليست فنّاً، بل مرض. إنها شلل في قدرة الإنسان على التعاطف، هي محاولة يائسة لتعويض نقص الرّوح بالتهكّم.
هناك "نكتة" تبتسم للإنسانيّة، وأُخرى تفضح جفاف القلب. العبارة التي كتبها ذاك الكائن تنتمي إلى الثانية، تلك التي تكشف موت الرّوح وعَقَم الفكر.
من يستهزئ بجروح الآخرين كمن يُعلِن إفلاسه البشري. التخلّي عن ميزاتٍ منحها الله للإنسان يحمل معنىً واحداً لا يقبل المناظرة. أمّا بعد، فمن يُتاجر بالألم فليتذكّر أنّ الكلمات لا تُضحِك حين تُلوّث بالعار، وأن السخرية من جروح الآخرين قد تعود على صاحبها بجروحٍ مضاعفة. هذا إيماننا، وهذا منطق الحياة: "انظُرُوا ما تسمعون! بالكيْل الذي به تكيلون يُكال لكم ويُزاد لكم أيها السامعون".
مي شدياق إنسانة صمدت، نجت، واستمرّت. اليد التي فقدَتها كانت ولا تزال رمزاً للحقّ، واليد التي يسخر البعض منها، هي جسر إلى الكرامة.
رغم قساوة ما كُتِبَ ووحشيّة من كَتَبَ، تظلّ مي شدياق أكبر من السخرية، أسمى من أي تعليق فارغ، شاهدة على أنّ النور لا يُطفَأ بمحاولة اغتيال، وأن من فقد يده قد يمدّ للبشرية ألف يد من إلهام وشجاعة وصمود.
سلامٌ لكِ مي شدياق، ومباركةٌ يدِكِ الّتي تحدّت المستحيل.
المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الاعلامية
نبض