الذكاء الاصطناعي والقوانين: نحو توازن العقلين
 
                                    راشد شاتيلا -  مختص في الذكاء الاصطناعي وإدارة البيانات 
 في عالم يتغير بسرعة تفوق إدراك البشر، خرج الذكاء الاصطناعي من رحم الخيال العلمي ليصبح عقلًا موازياً للعقل الإنساني، لا يعرف الملل ولا النسيان. لقد غيّر مفهوم العمل، وأعاد تعريف الإنتاجية، وطرح أسئلة وجودية حول حدود السلطة والعقل والإبداع. هذا التحوّل المذهل لم يمرّ دون أن يستدعي يقظة تشريعية، إذ بات القانون مدعوًّا لمواكبة ولادة وعيٍ رقميٍّ جديد يتحدى المألوف.
 حين يكتب الذكاء الاصطناعي قصيدة أو يضع تشخيصاً طبياً أو يصمم مدينة افتراضية، يثور السؤال: من المسؤول عن النتيجة؟ المبرمج؟ أم النظام؟ أم المؤسسة المالكة له؟ هنا تتجلى المعضلة القانونية الكبرى، إذ لم يعد القانون يتعامل مع أفعال بشرية فحسب، بل مع قرارات ناتجة عن خوارزميات لا تمتلك نية أو ضميراً، لكنها قادرة على التأثير العميق في الواقع الإنساني.

 القوانين وُجدت لتنظيم الحياة البشرية، لكنها اليوم تُختبر أمام عقلٍ غير بشري. فهل تكفي النصوص القديمة لتأطير سلوك آلةٍ تتعلّم وتتحسّن ذاتياً؟ إن الجمود التشريعي قد يصبح خطراً على العدالة ذاتها، لأن بطء التكيّف مع التطوّر التقني يخلق فجوةً قانونيةً واسعة يستغلها من يسعى للهيمنة الرقمية دون ضوابط.
 تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القضاء تَعِدُ بسرعة غير مسبوقة في تحليل الملفات واتخاذ القرارات، لكن الخطر يكمن في أن الخوارزمية قد تتعلّم من بياناتٍ مشوبة بالتحيّز. العدالة حينها قد تتحول من قيمة إنسانية إلى معادلة حسابية، ما لم يُصغ المشرّع قوانين تضمن الشفافية، والمساءلة، وحق المراجعة البشرية لأي قرار آلي.
 مع توسّع الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، نشأت طبقة جديدة من "المواطنة الرقمية"، حيث يصبح لكل إنسان هوية بيانات تشكّل صورته القانونية في الفضاء الإلكتروني. وهنا يبرز سؤال الحقوق: هل تُعتبر البيانات ملكية شخصية محمية؟ وكيف يُحاسَب من يسيء استخدامها؟ لا بدّ من تشريعات تُعيد التوازن بين الابتكار وحماية الكرامة الإنسانية.
 القانون لا يُكتب بالحروف وحدها، بل بالضمير أيضاً. لذلك يجب أن يترافق تطوّر الذكاء الاصطناعي مع بناء منظومة أخلاقية تُلزم المبرمجين والمشرّعين على حدّ سواء. فالمبرمج الذي يمنح الآلة القدرة على اتخاذ القرار، يجب أن يتحمّل مسؤولية اجتماعية وقانونية عن نتائجها، تماماً كما يتحمّل القاضي مسؤولية حكمه.
 الذكاء الاصطناعي ليس خصماً للبشر، بل فرصة لإعادة تعريف معنى العقل الإنساني. فبدلاً من مقاومته، يجب أن يندمج في بنية القانون كأداةٍ للتحليل، والتنبؤ، وتطوير العدالة. بذلك يتحول القانون من نص جامد إلى نظام ديناميكي متفاعل مع الزمن، يوازن بين السرعة الرقمية والضمير الإنساني.
 المستقبل لن يُكتب بالحبر وحده، بل بالكود أيضاً. ولذلك فإن القوانين المقبلة يجب أن تجمع بين فكر الفلاسفة ودقّة المبرمجين. فالعصر الرقمي يحتاج إلى تشريعات مرنة تواكب التحوّل دون أن تفقد جوهر العدالة. وعندما يلتقي الذكاء الاصطناعي بالقانون في إطارٍ من الأخلاق والمسؤولية، عندها فقط سيولد عصرٌ جديد تُحكم فيه الآلات بالضمير، ويُصان فيه الإنسان بالعقل.
 
     
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             
                                                                             نبض
                                                                        نبض
                                                                     
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                 
                                                