الدستور وحيداً

المحامي ربيع حنا طنوس
ليس النص الأسمى في الدولة مجّرد إعلان مبادئ، بل هو العقد الذي تُبنى عليه الشرعية وتنتظم من خلاله الحياة العامة. فهو الذي يحّدد حدود السلطة ويرسم ملامحها، ويجعل من التداول والرقابة والمساءلة ركائز لاستمرار الدولة. فحين يُحترم، تضبط المؤسسات، ويتحقق التوازن بين الحاكم والمحكوم. أما حين يُهمل او يُفسّر على هوى المصالح، فيتحول إلى شاهد صامت على انهيار الشرعية.
في لبنان، تتقدم النصوص احياناً على التطبيق ويغدو القول أكثر حضوراً من الفعل. تتكرر الأزمات، تعطل المؤسسات، وتُعلّق المهل كأن الزمن الدستوري مجّرد تفصيل. تمدّد الولاية لمن انتهت ولايته، ويُكرر التعطيل بحجج الظروف، فتتكرّس سابقة تلو اخرى، حتى يغدو الاستثناء قاعدة.عندها يصبح النص وحيداً، ويتلو احكامه على واقع لايسمعها.
القضية ليست في النصوص، فهذه وضعت لتكون اطاراً عاماً يحكم الجميع، بل في الارادة التي تتعامل معها. ان احترام الشرعية الدستورية ليس ترفاً فكرياً أو خياراً سياسياً، بل هو جوهر وجود الدولة نفسها. حين يُعطل انتخاب رئيس للجمهورية، أو يُمدّد لمجلس نيابي من دون تفويض شعبي، أو يُطيّر نصابُ جلسةٍ… يصبح المسّ بالمبدأ لا بالشكليات. فالمؤسسات تستمد معناها من الإرادة العامة، لا من مهلٍ تتلاشى كلّما تعارضت مع المصالح. لقد جعل المشرّع من التداول مبدأً لا يقبل التعليق ومن الشرعية الشعبية اساساً لكل سلطة. وكلّ خروج عن هذا الإطار تحت أي ذريعة، يفتح الباب أمام الانحراف في الممارسة، ويضعف الثقة بالمؤسسات. فالشرعية لا تُستعار ولا تمنح بقرار بل تُكتسب بالانتخاب الدوري للإرادة العامة.
في التجارب الديموقراطية الراسخة، يكون النص مرجعاً أعلى يُلجأ إليه عند الخلاف، لا ورقة تُستحضر لتبرير الفراغ. أما عندنا فكثيراً ما يُختصر بالاجتهاد السياسي، حتى صار الالتزام به انتقائياً. نستنجد به عندما يلائم مواقفنا، ونتناساه عندما يقيّده. بذلك يتحّول من درعٍ للدولة إلى شاهدٍعلى تجزئتها. إن أخطر ما يمكن أن تُصاب به الحياة الدستورية هو الاعتياد على المخالفة، لأن التكرار يطبع الوجدان العام، فيغدو الخلل واقعاً مقبولاً. وحين تسكت المؤسسات عن واجباتها يصبح النص الأعلى وحيداً يواجه فراغاً لايملأه سوى غياب الضمير العام.
ليس المطلوب تأليف نصوص جديدة، بل العودة إلى روح النص القائم، إلى تلك اللحظة التي اعتبر فيها القانون فوق الجميع. عندها فقط تستعيد الدولة معناها، والمؤسسات دورها، والمواطن ثقته بأن الشرعية لا تفرّغ من مضمونها كلّما تبدّلت المصالح.
إن احترام النص ليس مناسبةً شكلية، بل فعل إيمان بالدولة نفسها. فحين يلتزم الجميع حدود السلطة تتوحّد الإرادة العامة، ويزول الإحساس بالعجز والتشرذم. أمّا حين يظل النص وحيداً، فلا شرعية تُبنى ولا مؤسسات تحترم لان ما يُهمل في المبدأ يُفقد في الواقع.
المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الاعلامية