السوداني يعيد تشغيل خط جيهان: اتفاق تاريخي "يوحّد" النفط العراقي

بعد توقف دام أكثر من سنتين ونصف، عاد نفط إقليم كردستان العراق ليتدفق عبر خط كركوك – جيهان إلى تركيا. الاتفاق الذي وُصف بالتاريخي لم يأتِ بسهولة؛ بل هو ثمرة مفاوضات طويلة خاضتها بغداد مع أربيل، وبتوازنات معقدة مع أنقرة، انتهت إلى صيغة تُعطي الدولة الاتحادية حق الإشراف الكامل على التصدير من خلال شركة تسويق النفط الوطنية.
الاتفاق وُصف بـ"المحطة المفصلية"، لأن النفط الذي كان سبباً للصراع الداخلي بات اليوم مدخلاً لشراكة أوسع تعيد الثقة إلى الأسواق وتعطي إشارة واضحة إلى أنّ العراق قادر على تجاوز عقدة الانقسام.
القصة ليست وليدة اللحظة. فمنذ عام 2007 بدأ الإقليم بتوقيع عقود نفطية مستقلة عن بغداد، ما فجّر نزاعاً بشأن ملكية الحق الحصري في إدارة الثروة الوطنية. سنوات من الشد والجذب تخللتها صفقات موقتة لم تصمد، حتى جاء الحكم الصادر عن محكمة التحكيم الدولية في باريس عام 2023. المحكمة قضت بأنّ صادرات كردستان عبر تركيا غير قانونية من دون موافقة بغداد، وألزمت أنقرة بدفع تعويض يقارب 1.5 مليار دولار.
ذلك القرار أغلق خط جيهان التركي، وحرم الأسواق من قرابة 400 ألف برميل يومياً، مكبداً العراق والإقليم والشركات على السواء، خسائر فادحة قُدرت بمليارات الدولارات. هذه الخسائر عمّقت الأزمة المالية في الإقليم، الذي عجز عن تسديد مستحقات الشركات العاملة فيه، فيما زادت من عجز الموازنة الاتحادية، وخلقت فراغاً استثمارياً هدّد بتهجير رساميل حيوية. لكن مع مرور الوقت، بدا أنّ الجمود أخطر من أيّ تنازل سياسي.
هنا برز دور رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي التقط اللحظة وأصر على كسر الحلقة المفرغة. منذ توليه المنصب، وضع السوداني نصب عينيه أنّ العراق لا يمكن أن يستمر منقسماً حول ملف النفط، وأنّ استمرار التعطيل يعني نزيفاً يومياً للخزينة. بادر إلى فتح قنوات حوار مباشرة مع أربيل، وفي الوقت نفسه تواصل مع أنقرة التي تتحكم بمفتاح خط جيهان. لم يكن الطريق سهلاً، باعتبار أنّ الشركات تطالب بديون متراكمة، والإقليم يريد الحفاظ على جزء من الاستقلالية. أمّا أنقرة فتبحث عن ضمانات قانونية.
نجح السوداني عبر مفاوضات متواصلة في تقريب وجهات النظر بين الجهات الثلاث حتى وصل إلى صيغة وسط: سومو تدير التصدير، الإقليم يحتفظ بـ50 ألف برميل يومياً لاستهلاكه المحلي، وبقية النفط تُدار عائداته من بغداد بشفافية.
الأرقام تكشف حجم الاختراق. الصادرات استؤنفت بكميات أولية راوحت بين 180 و190 ألف برميل يومياً، مع خطة للوصول تدريجياً إلى 230 ألف برميل. الشركات ستحصل على تعويض ثابت قدره 16 دولاراً عن كل برميل، وهو رقم مبدئي سيخضع لاحقاً لمراجعة من شركات استشارية متخصصة تأخذ في الاعتبار كلفة الإنتاج والنقل.
هذه الصيغة وفّرت للشركات ضمانة بعدم الخسارة، وللحكومة الاتحادية وسيلة لإبقاء الاستثمارات قائمة من دون أن تفقد السيطرة على العائدات. لكن العقدة الأبرز كانت ملف الديون المتراكمة، الذي دفع بعض الشركات الكبرى مثل DNO وGenel Energy إلى رفض الانضمام فوراً للاتفاق. نجح السوداني في تمرير صيغة مرنة. صحيح أنّ الاتفاق وُصف بـ"الموقت"، لكنه استطاع أن يحدث اختراقاً في ملف المفاوضات (مهلة ثلاثين يوماً لمعالجة ملف الديون). بذلك ضَمِن السوداني استمرار الضخ، وأبقى الباب مفتوحاً أمام تسويات مالية سوف تُرتّب لاحقاً.
الأهمية السياسية لا تقل عن تلك الاقتصادية. بتسليم نفط كردستان إلى بغداد، تعزّز مبدأ السيادة الاتحادية، من دون أن يشعر الإقليم أنّه خسر شيئاً. هذه المعادلة بعثت برسائل إلى الداخل، حيث الشارع يطالب بالعدالة في توزيع الثروة، وإلى الخارج، حيث أسواق الطاقة تراقب قدرة العراق على أن يكون لاعباً موحداً وموثوقاً.
أنقرة بدورها خرجت رابحة، إذ ضمنت استمرار تشغيل الخط ورفع الحرج القانوني عنها بعد حكم باريس، فيما واشنطن وعواصم أخرى رأت في الاتفاق خطوة إيجابية لاستقرار إمدادات النفط.
صحيح أن الطريق لا يزال مليئاً بالتحديات وعلى رأسها حاجة خط الأنابيب إلى صيانة بعد سنوات التوقف، والشركات تطالب بتسديد مليارات من المتأخرات، والسياسة العراقية لا تخلو من مفاجآت قد تعيد خلط الأوراق. لكن مجرد استئناف التدفق بعد توقف طويل، وإعادة دمج نفط الإقليم في المنظومة الوطنية، هو إنجاز يُحسب لحكومة السوداني.
إذاً، بعد 18 عاماً من التجاذبات، يتحول النفط من "أداة نزاع" إلى "جسر تعاون". وإذا ما التزمت الأطراف بما تمّ الاتفاق عليه، فإنّ مئات آلاف البراميل اليومية ستتحول إلى مليارات الدولارات تدخل خزينة الدولة وتُنعش اقتصاداً عطِشاً.