هل نلغي مصطلح سيادة من القاموس؟

طوني عطاالله*
تنتشر في الإعلام مقالات غير بريئة، وتُعقد لقاءات سياسية "بتكتم" بين بعض الأحزاب، لا هدف واضحاً لها سوى إعادة تشكيل المفاهيم السياسية وتشويه المصطلحات عمداً أو عن جهل. هذه المحاولات تسعى لإشاحة النظر عن المعضلة الأساسية التي تواجه لبنان اليوم: استعادة الدولة. مهما تكن البنود غير المطبّقة في اتفاق الطائف مهمة، فإن الطائف والدستور وحتى فكرة الكيان برمّتها لا قيمة ولا جدوى لها قبل أن نستعيد الدولة.
السيادة في خطر
بعد استغلال فكرة الميثاق والميثاقية وتحريف مفهوم "الثلث الضامن" ليصبح أداة لتعطيل الحياة الدستورية، جاء الدور الآن لمفهوم الدولة وسيادتها. نسمع أصواتاً تروّج لفكرة "نسبية السيادة"، وهي محاولة لتبرير تدخّل الخارج في شؤوننا الداخلية، وتحويل الأنظار عن الهدف الأسمى: استعادة الدولة. فهل علينا حذف مصطلح السيادة من القاموس اللبناني؟
لبنان اليوم ليس دولة بوجود دويلة تنافسه على أرضه، لها ديبلوماسيتها وجيشها وماليتها وسياساتها المستقلة. يعبّر رئيس الجمهورية جوزف عون في نداء مؤثر إلى المجتمع الدولي عن جوانب من المشكلة يقول: "كونوا معنا، لا تتركوا لبنان. حسمنا خيارنا بأن يكون لبنان أرض حياة وفرح".
المشكلة تطال جوهر السيادة نفسها. إن تعليم القانون الدستوري في لبنان لا يزال يعتمد على تعريف مبسط للدولة يردّده معظم طلابنا ببغائياً كـ"أرض وشعب ومؤسسات"، بينما تطوّر القانون الدولي ليؤكد فكرة السيادة المطلقة للدولة. هذا المفهوم قائم على احترام السيادة الوطنية كقاعدة أساسية وبمساواة بين الدول، وتشمل أربع وظائف أساسية سيادية تسمّى ملكية لا يمكن التنازل عنها دون فقدان الدولة صفتها كدولة وهي: احتكار القوة المنظمة، العلاقات الديبلوماسية، جباية الضرائب وإدارة العملة الوطنية، إدارة السياسات العامة (التربية، الصحة، الاقتصاد، السياحة...). ومع ذلك، فإن مفهوم الدولة اليوم في العالم إلى تراجع لأن كتب التاريخ المدرسية لا تعلم الطلاب كيفية نشوء الدول ومراحل بسط سيادتها.
أنماط العلاقات الدولية وتأثيرها على السيادة
يمكن تصنيف العلاقات بين الدول إلى خمسة أنماط، لكل منها تأثير مباشر أو غير مباشر على مفهوم السيادة:
1. علاقات التعاون لتحقيق السلم العالمي: تشمل الاتفاقيات الدولية والتحالفات الاقتصادية والعلاقات الديبلوماسية وتكون هذه محصورة بالدولة. هذه العلاقات تُبنى على التعاون وتبادل المصالح، وتمر عبر القنوات الرسمية من رئاسية وحكومية أو ديبلوماسية. لكن حين تنخرط أحزاب أو فئات لبنانية في علاقات مع الخارج بمعزل عن الدولة، سواء لاستمداد المال أو السلاح، أو حين يدعو قيادي حزبي إحدى الدول لفتح صفحة جديدة معه وتفاوض، أو حين يهدّد ديبلوماسي أجنبي بقطع "رأس أفعى" هذا الحزب أو ذاك في الداخل، أو حين يحرّض مسؤول أجنبي على الحرب (لو كنت قائداً لهذا الحزب أو ذاك لاستهدفت عمق هذه الدولة أو تلك)، فإن ذلك يُعد انتهاكاً للسيادة (Ingérence) يقودنا إلى الحالة الثانية.
2. علاقات التبعية أو الاحتلال: تشمل الدول الواقعة تحت التبعية أو الاحتلال أو الحماية أو الوصاية بمختلف أشكالها، وتُعدّ دولًا ناقصة السيادة (Dépendance).
3. المساعدات الدولية: تتم من خلال الدولة المركزية، مثل المساعدات المالية والعسكرية للجيش، أو المساعدات المخصصة للقطاع التعليمي أو الصناعي أو الزراعي... تبقى بمجملها خاضعة لسلطة الحكومة الشرعية وموافقتها.
4. القرارات الدولية: الصادرة عن المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن تهدف إلى حماية سيادة الدول الأعضاء لا إلى حرمانها منها وتنظيم العلاقات بينها. لكن الامتثال لهذه القرارات، مثل القرار 1701، لا يعني انتهاك السيادة بل هو جزء من النظام الدولي، علماً بأنه لم يسبق لمجلس الأمن أن فرض على دولة ما المشاركة، رغماً عنها، في قوات دولية أو إلزامها المشاركة في تطبيق تدابير القسر والمنع (الواردة في الفصل السابع). لذلك يُعدّ امتثال إيران مثلاً لمراقبي وكالة الطاقة الذرية بتفتيش مواقع المفاعلات الذرية تطبيقاً للقرارات الدولية لا يمسّ سيادتها المطلقة بل هو احترام للقانون الدولي. أما الترويج لمقولات تتخذ من هذه الواقعة نموذجاً للادعاء بنسبية السيادة وصولاً إلى اعتبار أن لا سيادة لدولة على أرضها سوى للولايات المتحدة، فهذه مقولة خاطئة تنسف كل المبادئ والنظم السيادية والدستورية والقانونية داخل الدولة وخارجها.
5. العلاقات الثقافية والاجتماعية: تشمل التبادل الثقافي والتعليم والسياحة الدينية، والحج الديني، وهي علاقات سامية تعزز التفاهم بين الشعوب، مثل العلاقة بين الفاتيكان والمسيحيين الكاثوليك أو بين المسلمين السنة والشيعة وأماكنهم المقدسة في مكة المكرمة، أو العتبات المقدسة في كربلاء والنجف الأشرف وقم... ويمكن أن يشمل هذا النوع زيارات قياديين حزبيين للخارج تبقى في الإطار الاجتماعي حتى لو اجتمعوا مع رؤساء الدول، وكذلك عمل جماعات الضغط.
التلاعب بالمفاهيم: أداة للتحكم بالعقول
في ظل هذا الواقع، نشهد في لبنان لغة سياسية وإعلامية جديدة تهدف إلى التلاعب بالمفاهيم وتحويرها. هذه اللغة، المستوحاة من الأنظمة الشمولية، تُستخدم لتشويه المفردات الواضحة وتضييق المعاني بهدف التحكم بالعقول وفرض خطاب سياسي أحادي. يشير الكاتب جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984" إلى هذا الأسلوب تحت مصطلح "Newspeak"، حيث تُحذف الكلمات وتُلغى المرادفات لجعل التفكير الحر والفكر النقدي مستحيلاً.
يواجه لبنان في المرحلة الراهنة تحدياً وجودياً يتمثل في استعادة الدولة ومفهوم السيادة. محاولات الترويج لنسبية السيادة أو تشويه معناها ليست سوى محاولات لتقويض الكيان الوطني وفتح الباب لتدخلات خارجية. السيادة ليست مجرد كلمة، بل هي جوهر وجود الدولة وأساس هويتها. والحذر كل الحذر من محاولات إلغاء أو تحريف هذا المفهوم البديهي، بل مطلوب العمل على استعادة الدولة أولًا، لأن السيادة هي حق لا يمكن التنازل عنه. فهل نلغي مصطلح سيادة من القاموس اللبناني أم نعمل على تطويرها وتعميق مفاهيمها الصحيحة كما في قواميس العالم؟
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.