الحرب لم تنتهِ... إيران تتحضّر للجولة الأخطر

*الدكتور خالد الحاج
منذ انتهاء الحرب الأخيرة، تتعامل إيران مع المشهد وكأن الحرب لم تنتهِ فعليًا، بل كاستراحة مؤقتة في معركة طويلة لم تُحسم بعد. فالمشهد الإيراني يوحي أن الحرب، في نظر القيادة، لم تُجمَّد إلا تكتيكيًا، وأن الجولة المقبلة ليست سوى مسألة وقت. في حسابات طهران، واشنطن وتل أبيب تجهزان لمواجهة ثانية أكثر قسوة، لا تقتصر على استهداف أذرعها في الإقليم، بل قد تمتد لتطال العمق الإيراني نفسه. هذا التصور هو ما يدفع الجمهورية الإسلامية إلى الاستعداد لمعركة تُصنّفها كصراع وجودي: إمّا بقاء النظام أو انهياره.
على الصعيد الدولي، تدرك إيران أن أزمتها مع الولايات المتحدة تتجاوز الخلافات حول ملفات الشرق الأوسط، وأن جوهر المشكلة يرتبط بتحالفها الاستراتيجي مع الصين. واشنطن ترى في هذا الارتباط تهديدًا مباشرًا لمشروعها الاقتصادي في المنطقة ولترتيباتها العالمية. إيران من جهتها، بحكم أيدولوجيتها والذهنية السياسية، لا يمكن أن تكون جزءًا من الرؤية الاقتصادية الأميركية في الشرق الأوسط. من هنا، تبدو محاولة محمد جواد ظريف، في مقاله بمجلّة Foreign Policy، التلميح إلى إمكانية أن تتحول إيران إلى ساحة للمشاريع الاقتصادية الأميركية، وكأنها قراءة متفائلة أكثر من اللازم، بل تتجاهل طبيعة الصراع العالمي القائم على إعادة تشكيل النظام الدولي. ففي زمن صراع القوى الكبرى، لا مجال للوقوف بقدم عند واشنطن وقدم عند بكين. هذه الازدواجية تعكس أزمة عميقة داخل النظام الإيراني نفسه: صراع بين براغماتية تبحث عن مخارج واقعية، وأيديولوجيا أساسية ترى في المواجهة جزءًا من هويتها وشرعيتها.
شرعت طهران بالتحرك على خطين متوازيين. الأول إعلامي–سياسي، يقوم على ضخ صورة "الانتصار الكبير" في المواجهة مع إسرائيل. فقد سعت إلى إقناع الداخل الإيراني بأنها حققت إنجازًا تاريخيًا، وتزامن ذلك مع حملة إعلامية عبر أذرعها في الإقليم، خصوصًا في لبنان، حيث جرى تصوير المعركة على أنها تحوّل استراتيجي غيّر قواعد اللعبة وقلب موازين القوى. الهدف من هذا الخطاب كان مزدوجًا: رفع معنويات الحلفاء، وتوجيه رسالة إلى الخصوم بأن إيران خرجت من المعركة أكثر صلابة.
أما الخط الثاني، فهو عسكري–استراتيجي. ففي زيارة إلى بيروت قبل أسابيع، أبلغ علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، قيادة حزب الله بأن ترسانتها العسكرية تمثل "خطًا أحمر"، وأن أي عدوان إسرائيلي جديد سيُواجَه، بدعم إيراني مباشر وبمشاركة أطراف إقليمية أخرى مثل الفصائل العراقية و"أنصار الله" الحوثيين. الرسالة كانت واضحة: الحرب على حزب الله تعني الحرب مع إيران.
بالتوازي، بدأت طهران معالجة الثغرات التي كشفتها الحرب الأخيرة. إذ تعرّضت دفاعاتها الجوية لاختبار صعب، ما دفعها إلى شراء معدات متطورة من الصين، تشمل طائرات مقاتلة من طراز Chengdu J-10C وأنظمة دفاع جوي حديثة (SAMs). كما وسّعت تعاونها العسكري مع باكستان، في إطار استراتيجية أوسع تهدف إلى تنويع تحالفاتها بعيدًا عن الارتهان الكامل لروسيا. ذلك أن طهران، رغم شراكتها الوثيقة مع موسكو، تدرك أن أي تسوية بين روسيا والولايات المتحدة بشأن أوكرانيا قد تحمل في طياتها تنازلات على حسابها. ومن هنا جاء الانفتاح المتزايد على الصين، التي تنظر إلى إيران كبوابة أساسية لمشروع "الحزام والطريق" باتجاه أوروبا.
لكن التحديات لا تتوقف عند هذا الحد. أوروبا منحت طهران فرصة محدودة لتقديم تنازلات في ملفها النووي. ومع اقتراب نهاية المهلة، يبدو أن الاتجاه يسير نحو إعادة فرض العقوبات عبر آلية Snapback، ما يعني دخول إيران عقدًا جديدًا من الحصار الاقتصادي والسياسي. وفي مثل هذا السيناريو، يتعزز في طهران الاعتقاد بأن خيار الصدام العسكري لم يعد احتمالًا بعيدًا، بل المسار الأكثر واقعية في المرحلة المقبلة.
إجمالًا، يمكن القول إن إيران تعيش اليوم في ظل معادلة مزدوجة: من جهة، تصوغ خطاب "الانتصار" لإقناع جمهورها الداخلي وحلفائها الإقليميين بصلابة موقفها، ومن جهة أخرى، تنخرط في سباق تسلح وتحالفات جديدة استعدادًا لمواجهة شاملة ترى أنها قد تحدد مصير النظام نفسه. وبين البراغماتية التي تسعى إلى تجنّب الانهيار، والأيديولوجيا التي ترفض التراجع، تبقى إيران في قلب صراع عالمي مفتوح على كل الاحتمالات.