منبر 19-08-2025 | 12:58

إبهام لا يهدأ وشاشة لا تصدأ

كأن العالم تقلّص إلى مستطيل مُضيء في جيبنا، مستطيل يختصر العمر والذاكرة والوجوه. صار الوجود رقمياً أكثر منه إنسانياً وواقعياً. المسافات تقلّصت؟ طبعاً. لكن الغربة تضاعفت أيضاً.
إبهام لا يهدأ وشاشة لا تصدأ
تعبيرية (مواقع تواصل)
Smaller Bigger

ريمي الحويك 


 

كأن العالم تقلّص إلى مستطيل مُضيء في جيبنا، مستطيل يختصر العمر والذاكرة والوجوه. صار الوجود رقمياً أكثر منه إنسانياً وواقعياً. المسافات تقلّصت؟ طبعاً. لكن الغربة تضاعفت أيضاً.
 كنا نسير مسافات بعيدة، أو نقود سيّاراتنا لكيلومترات عديدة لنلتقي بالأحبة. واليوم، أصبح الواتساب وسيلة التواصل الاجتماعي، بل التباعد الإنساني، تباعد حتى في أعمق اللحظات، تهنئة كانت أم مُواساة، نرسلها أو نعرضها على الملأ أو بالخفاء، سواء  ذلك عبر رسالة خاصة في تطبيق أو تعليق على منشور في تطبيق آخر، ونضيف الرموز للإقناع والتشريع، وكل ذلك بلغة مختزلة بعيدة عن الظرف الراهن، نرسل قلباً مقسوماً، أو يدين مترابطتين، بينما ذلك القلب المُحتفِل يبحث عن عناقٍ يُبارك، والقلب الآخر المكلوم يستنجد ربتةٍ تُواسي. القلوب، مبتهجة كانت أو مفجوعة، لا تُبلسمها الرموز الضبابية والعواطف الراسية عن بُعد بل تُفاقِم وجعها.
 حتى الجيران، الذين يفصل بينهم رصيف ورد وحوض بقدونس، باتوا يجتمعون عبر اتصال فيديو لإلقاء تحية أو لطلب رغيف خبز توصله مساعدة المنزل.
 كانت المجالس العائلية تخفق بالحكايات والأحاديث، والزمن يُقاس ببطء خطواته بين قهوة صباحية ونشرات الأخبار والبرامج المسائية. أما اليوم، فالوقت ينزلق كالماء من بين الأصابع، تمتصّه الإشعارات والتحديثات الهاتفية، وتتفكّك معه الأواصر والروابط الأسريّة.
 حتى الموسيقى فقدت وهجها وبريق أنغامها، منصات رقميّة تخزن لك كل الأغاني لتنتقي ما يطيب لسمعك، لكنك تفقد الدهشة التي تهتز لها روحك. فجأة، يصدح صوت من راديو السيارة كوشم دفين على صدر الزمن، فيرتجف القلب كأنه لقي حبيباً بعد غياب طويل وتمتدّ اليد بلا وعي نحو الإشارة الصوتيّة رافعة الصوت إلى أقصى حدّه.
 المكتبات الخاصّة والعامّة، لم تعد تملؤها الأصوات والقلوب الهاربة لتلتقي تحت حروف كُتُبِها. أصبح اللقاء عبر الشاشة كافياً للعشّاق، للبَوح، للنظر، وحتى للغرق في الحبّ.
 النوادي الرّياضيّة التي كانت تجمع الشّباب بالنّشاط والصّخب والحيويّة، فرغت. بات الشّباب يلتقون في ملعب إلكترونيّ مع كرة قدم وهميّة، بلا ركض، بلا شجار، بلا حماس، بلا مشجّعين، بلا رابح أو خاسر.

 

 

 

 

 ممارسات الأمومة والأبوّة تغيّرت، شاشة مضيئة أو بلايستيشن بدل التراب والطّين والمراجيح. ضحكات افتراضية بدل أحضان الأجداد وحكاياتهم ولهو على الأشجار والسّطوح وصنع الطّائرات الورقيّة والقفز فوق الحبال.
 المشكلة ليست في التكنولوجيا نفسها، بل في طريقة تعاملنا معها. كيف سمحنا لها أن تسرق اللّحظة، تخطف الشّغف، تسحق الصّبر، تُغيّر قيمنا، تُغلِّف مشاعرنا، وتتحكّم بأسلوب حياتنا، من ألفه إلى يائه.
 كم يخسر الجيل الحديث من لحظات ومراحل لن تعود، حكاية تُروى على مهل كي ينام، كتاب يُقرأ بتمعن كواجب في العطلة الصّيفيّة، صداقة تنمو باللقاء لا بالرّسائل، زيارة مفاجِئة دون علم أو خبر، عودة إلى الجذور، إلى ذكريات تكدّست بعاطفة الأجداد، وجوه على جدار الغرف تُذِكّرنا بأن الحياة ليست إشعاراً على شاشة، وسماء الليل تحمِلُنا إلى فضاء حالم تعجَز كل تقنيّات الواقع الافتراضيّ عن نقله إلينا.
 العالم الجديد لا ينبغي أن يكون سجناً رقمياً، بل جسراً بين إنجازات الحاضر والماضي معاً. المستقبل ليس حكراً على الأجهزة الذّكيّة، أو الذّكاء الاصطناعيّ، أو الآلات الرّوبوتيّة. لن تُبنى حضارة بلا وجدان، ولن تسير الحياة بلا روح، ولن تبقى الإنسانية دون قلب. فاستبدال الإنسانيّة برجُل آليّ هو العد التازليّ للحياة نفسها، والإنسان ابْنُ الحياة، لا العكس، فلن يستطيع مهما بلغ من تطوُّر وتقدُّم أن يقلب موازين الطبيعة.
 النهاية السّعيدة قد تكون مُحزنة لهذا الجنون التّكنولوجي، لكن قد ينبثق الفجر يوماً ما، نستيقظ على أصوات الأجراس أو حفيف أوراق الشجر، على خرير الينابيع أو زقزقة العصافير، فجر لا إشعارات فيه، لا عواجل توقظُنا من سِبات نومنا الهنيء. ولو كان لي أن أُقرِّر، لاخترت أن يشُقّ الفجر نورَه عليّ، على صوت ملائكيّ ينهال من خلف نوافذ منازل حَيِّنا، صوت فيروز.

  
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
النهار تتحقق 10/6/2025 11:04:00 AM
ابتسامات عريضة أضاءت القسمات. فيديو للشيخ أحمد الأسير والمغني فضل شاكر انتشر في وسائل التواصل خلال الساعات الماضية، وتقصّت "النّهار" صحّته. 
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".