الشّبكات الاجتماعيّة والصّورة الذّاتيّة بين الثّقافات التّقليدية والحداثة

الان جرجورة
أصبحت الشّبكات الاجتماعيّة اليوم فضاءً مفتوحاً للتّواصل وتبادل الأفكار، ولها دور أساسيّ في تشكيل صورة الذّات لدى الشّباب. فبينما تُعَدّ هذه المنصّات امتداداً للحداثة والعولمة بما تحمله من قيم جديدة ورموز بصريّة متجدّدة، فإنّها في الوقت نفسه لا تنفصل عن الجذور التّقليدية والثقافيّة للمجتمعات العربيّة. وهكذا يتجلّى التوتّر بين هويّة أصيلة راسخة وأخرى مُهجّنة تتأثّر بالتّيارات المعولمة.
في العالم العربيّ، تمثّل الشّبكات الاجتماعيّة مرآةً مزدوجة. فمن جهة، يستخدمها الشّباب لتأكيد انتماءاتهم إلى ثقافتهم التّقليديّة من خلال نشر مظاهر من العادات والأزياء والمأكولات والمناسبات الاجتماعية، الأمر الذي يعزّز الشعور بالهوية والانتماء. ومن جهة أخرى، تُشكّل هذه المنصّات مجالاً للتفاعل مع أنماط جديدة من الحياة، خصوصاً عبر استهلاك الصّور والرموز المستوردة من الغرب، مثل مقاييس الجمال، أساليب الحياة الفرديّة، أو طرائق التعبير الفنّيّ والرقميّ.
وتبرز الإشكالية أكثر في ما يتعلّق بصورة الذّات. فالمعايير التقليديّة كانت تحدّد سابقاً مكانة الفرد وفق ما ينسجم مع القيم العائليّة والدينيّة والاجتماعيّة. غير أنّ معايير الجمال المنتشرة على "إنستغرام" أو "تيك توك"، على سبيل المثال، دفعت العديد من الشّباب إلى إعادة تشكيل هويّتهم البصريّة والشخصيّة لتتماهى مع الصّور المثاليّة التي تُقدَّم عالميًّا. وهذا التحوّل قد يؤدّي إمّا إلى تعزيز الثّقة بالنّفس إذا استطاع الفرد إيجاد توازن بين الأصيل والمكتسب، أو إلى توتّر نفسيّ واجتماعيّ إذا شعر بالاغتراب عن ذاته أو مجتمعه.
الأمثلة الملموسة كثيرة: فالشابّ العربيّ الذي ينشر صوراً له باللباس التقليديّ إلى جانب صوره بملابس عصريّة غربيّة يُجسّد بوضوح عمليّة التهجين بين التّقاليد والحداثة. كذلك، نجد شاباتٍ يلتقطن صوراً بالمكياج وأزياء عالمية، ثمّ يشاركن في الوقت نفسه محتوى مرتبطاً بالقيم العائليّة والدينيّة. هذا التداخل يعكس تعدّد مستويات الهويّة، حيث لا ينفي الجديد القديم بل يتعايش معه في جدليّة مستمرّة.
ومن الناحيتَين النفسيّة والاجتماعيّة، تتيح هذه الظاهرة فرصًا لتطوير الوعي الذاتي، إذ يصبح الفرد أكثر إدراكًا لصورته أمام الآخرين وللصّورة التي يرغب في تكوينها عن نفسه. كما تساهم في تنمية مهارات بناء العلاقات، حيث يتعلّم الفرد التّفاعل مع أنماط مختلفة من الثقافات داخل فضاء افتراضيّ عابر للحدود. لكن في المقابل، قد تفرض هذه المنصّات ضغوطاً على الفرد لمجاراة المعايير السائدة، ما يعرّضه لمخاطر القلق أو فقدان الأصالة.
خلاصة القول، إنّ الشّبكات الاجتماعيّة في العالم العربيّ هي ساحة ديناميّة يتقاطع فيها التّقليدي بالحديث. فهي ليست مجرّد أداة ترفيه أو تواصل، بل فضاء لصياغة صورة الذّات وإعادة التّفاوض حول الهويّة. والتحدّي الأكبر أمام الشّباب اليوم هو القدرة على التوفيق بين الأصالة والانفتاح، بما يتيح لهم بناء هويّة متوازنة تعكس جذورهم الثقافيّة وتواكب في الوقت ذاته متطلّبات الحداثة.