"يا شعبٌ مُنطلِقٌ حرٌّ، كلّ واحد عايِش عَ هواه"

الاب ايلي قنبر
صحيحٌ أن تفكيك النظام الطائفي لا يمرّ عبر الرفض الخطابي وحده، بل عبر بناء هوية سياسية جديدة تُقنع الناس، تُنظِّمُهم.
وصحيحٌ أيضًا أن تُقابَل الرمزيّة الطائفيّة بسرديّة وطنيّة عميقة. وإلَّا، فسنظلّ، كما قال زياد الرحبانيّ "قرطة عالم مجموعين، لا. مطروحين، لا.. مقسومين..."
من هنا، حاول المُبدِع زياد الرحبانيّ أن يبني تلك الهُوِّيَّة السياسيّة الجديدة من دون أن يَفرِضها على اللُّبنانيِّين. لقد أثَّر فيهم من دون أن يُقنِعهم لأنّه يحترم فكرهم:"يا شعبٌ مُنطلِقٌ، حُرٌّ. كلّ واحد عايِش عَ هواه"، وسامِحهُم يا ابَتاه!".
عابَ بعضهم على زياد الرحبانيّ عدَم تنظيم الناس عبر بناء هُوِّيَّةٍ سياسيّة وطنيّة عميقة تُسقِط الطائفيّة وتُقيم الدولة العَلمانيّة. وكأنّه غابَ عنهم ثمّةَ أنّ الرجُل ناضل مع فئات سياسيّة مُتَعدِّدة من أجل بلدٍ للإنسان. ومَن عمِل معهم زياد لم يلتقوا حول مفهومٍ مُشترَك ينطلقون منه لبناء ذاك البلد. لذا، إنّه لَجديرٌ بنا القيام بدراسة اُعمَّقة لأدبيّات زياد الرحبانيّ المتعدِّدة الشكل ونضالاته التي لم تتوقّف رغم أنّه فهِم أخيرًا رفضَ أُناسٍ التحرُّك من أجل ما يَتَمنَّون ولا يُريدونه.
نادى زياد بوطنٍ للإنسان عَلمانيّ في بلدٍ طائفيّ حتّى النخاع! لم يَقبل أن يكون مُزَيَّفًا في بلدٍ كلُّ ما فيه مُزيَّف. صحيحٌ أنّه قدِر أن "يجمِّع شعب ما بيِنجمَع"، وأنّه "أثبت بالتجربة قدّيش الفنّ قادر يأثّر على وجدان الشعوب أكتر بكتير من المحاضرات والمقالات"، غير أنّه مُنِيَ بـ"الخِذلان اللي صار عاديّ". فهِم زياد فاهم التركيبة اللُّبنانيّة، وركّبها امام أعيُنِنا مِثل مراية. قال: هذا أنتُم. ودخَل إلى أعماق ما نحِسّه كجرّاح بمِبضعه، وعرَض وجعَنا أمامنا. ألقاه علينا عبر النكتة لكي نتحمّله، ولكن لكَي لا ننساه. لقد وضَع الإصبع على الجرح من دون أن يقول لنا ماذا علينا فِعله؟ كان زياد مِثالًا حيًّا على قدرة الفنّ على التأثير بوُجدانيّات الناس. التأثير الحقيقيّ يشتغل على اللاَّوَعي، على العصَب، على الذاكرة، على الصَوت الذي لم يَعْلُ قبلًا. كان دومًا "رشيد" الذي يسخَر من "الحكيم". من وراء الستارة كان يقوم معنا بِجلسِة تحليل نفسيّ جَماعيّ. حينَ يمَرُّ فنّانٌ ويترُك جرحًا حُلوًا في نفوس الناس، ولا يكون خطيبًا أو قارئًا أو بطلًا نعرف أنّا نتكلّم عن شخصٍ إستثنائيّ.
كان زياد مثقَّفًا، لكنّه كان مثقَّفًا موجوعًا، لأنّه كان يعرف غير أنّه فقَد الأمل بمعنى معرفته. وهذا "يُسمّى في علم النفس اكتئاب المعنى". أنت تقرأ وتتكلّم وتنظِّر، لكنّك تعلم في داخلك "إنّو كلّو فاضي". الكلّ يكذِب، وزياد تعِب من الكذِب. لقد عرفَ منذ البداية ما يجب أن يُفعَل، غير أنّه عرفَ ايضًا "إنّو ما في نوَى". الحلّ الوحيد يكمُن في الآتي: "سعيدة يا با، ودَعوِس".
رحَل راح زياد كأنّه "ما عاد قادر يفكِّر شو ناطرنا بعد".
رحَل لأنّه كان يعرف الآتي: "فيلم اميركيّ طوييييل".
غادَر لأنّه "يعرف أنّ الكذِب تحوَّل وطنًا، وأنّ الفكر صار آلة، والفنّ تفاهة، وأنّ البشر فقدوا الحبّ".
في هذا المنحى، يلتقي زياد والمطران غريغوار حدّاد الذي ناضل دومًا، حتّى وهو طريح الفراش، من أجل بلدٍ عَلمانيّ الهُوِّيَّة، جامعٍ لكلّ إنسان ولكلّ الانسان. تفلسف حول العَلمانيّة كنظامٍ سياسيٍّ جامع يرتكز:
- على"استقلاليّة العالم بكل مقوّماته وأبعاده وقِيَمِه حيال الدين ومقوّماته وأبعاده وقيَمه".
- كما على "استقلاليّة الدولة والمجتمع، ومؤسساتهما وقوانينهما، وقضاياهما، وسلطتيهما عن المؤسّسات والقوانين والسلطات الدينيّة".
- وعلى بُعد الـ"تفاعل الجدلي بين الكيان والفكر والعمل".
- على محتوى يقوم على"الحرية والعدالة، والمساواة، والتضامن، والسلام، والديموقراطيّة، والفضائل الأخلاقيّة، كالصدق، والإخلاص، والخدمة، والتضحية والفداء".
- على "إحلال الانتماء الوطني بدلاً من الانتماء الطائفي"، لتقوم دولة سيادة كاملة أساسها المواطنون، وكفيلة حياة كل مواطنيها.
كان غريعوار "يؤمن بإمكان إنجاز (نظام العَلمانيّة). وفعل إيمانه (هذا) مبني على قابليّة الإنسان للتطوّر، وعلى قراءة تاريخيّة تظهر تحوّل الكثير من المجتمعات من دينيّة إلى علمانيّة". ويختم: العَلمانيّة التي نادى بها غريغوار حدّاد "تجعل من الوطن مساحة يُمكن كل الأديان أن تزدهر فيها روحيّاً، ثقافيّاً واجتماعيّا". غير أنّ "المبادىء والأهداف والأُمنِيّات بِلَا مُعطَيات وقيادات وشعب وظروف وإمكانات" تبقى "مُجرَّد شعارات عاجزة عن حلّ الأزمات"، يقول د. بيرج طرابلسي.