"لا يزال يهتف"
محمد سعيد حميد - اليمن
كان أمجد مختلفاً عن أقرانه؛ تصدح ضحكاته وهو مثقلٌ بهموم بلاده، يصارع الفقر ببصيرةٍ نافذة، تراقب ما تحمله الأيام من هوس السياسة وتقلبات الأقدار. لكنه لم يجد خياراً آخر إلا الولوج في قلبها، متآزراً بشجاعته ونفاذ بصيرته.
في ساحة الجامعة، لم يرتفع صوته يوماً إلا حين ناداه الحق؛ فقد وُلد لذلك.
تشبَّع منذ صباه بحليب الكرامة وعزة النفس، فكلمة "لا" كانت تنطلق دائماً إلى أقصى مدى، غير عابئة بما تجلبه من تبعات في وجه الظلم؛ لا تعرف حُجرةٌ تستريح فيها.
نسج من نفسه عالماً مقاوِماً، أذخره ليوم الشدائد في وجه القمع.
شاخت أوهام التغيير بصمت الناس، وتمادي الظلم. فهل يصمت؟

في مساءٍ شتائيٍّ بارد، حمل صوته المثقل بوجع السنين، وخاطب ثلّة من رفاقه في ساحة الجامعة:
"حان وقت كسر قيد السجّان".
ساد صمتٌ عميق؛ القرار لا يسمح بالفرار ولو لمترٍ واحد.
تعاضدت الأيدي، وانطلق الصوت الهادر:
"يسقط... يسقط النظام".
اهتزت المدينة. التهبت الساحة.
اكتظّت برجال الشرطة وبالشباب القادمين من كل حيٍّ لمؤازرة الطلاب، وارتجف المتخمون خلف الأسوار البعيدة.
طيف الخلاص صار شعاعاً أضاء بلاده.
الهراوات لم تعد وسيلة لإخماد جذوة الثورة، بل زادها الرصاص عنفواناً.
تسلل المنتفعون من النظام إلى صفوف الثورة، بل تصدّروها فجأة، بعد الخطابات التي تناوبوا على إلقائها للشباب، وأتباعهم يوزعون لهم الهدايا والملصقات، والوجبات والعصائر.
سارت الثورة في تعرّجاتٍ؛ صار المسار نصفه وهجاً، ونصفه ضباباً.
تعكّر مزاج أمجد، لكن لا خيار أمامه إلا الإمساك بزمام المبادرة، ورفع معنويات الشباب، وهو يرى البساط يُسحب من بين يديه.
لم تعد الثورة سلمية كما أراد، ولا المدينة بهيّة كما حلم أن يراها.
التهبت المدينة بالنيران، وسالت الدماء في طرقاتها.
وجد نفسه فجأة على جثة وطنٍ مذبوح، بسكاكين مصقولة بعناية بما يكفي لنَيل رضى الجلادين وأعوانهم.
الثورة تُعرّي كل شيء: الشعارات، والرفاق، والمحيط.
حمل رفاقه حقائبهم ورحلوا، ومنهم من رُمي في الشارع يواجه المصير المجهول.
في قلب العمارات الشاهقة والفلل الفارهة في داخل البلاد وخارجها، توزّع الطارئون على الثورة.
أما هو، فكان يواجه مصيره وحده متنقلاً بين زنازين تعج بروائح نتنة، وصراخ المعذبين حوله قبل أن يأتي دوره، ومن أمتلك قليلاً من الشجاعة من رفاقه كتب عنه كلمتين درءًا للحرج.
تعجز اللقمة أن تصل إلى فمه، بل حتى رشفة الماء.
لا ينتظر من يهتف له؛ فالمجد لم يكن غايته.
نعم، انكسر... ولم يعد كما كان، لكنه لم ييأس.
وبلاده لم تعد بلاداً كما كانت، أو كما أرادها أن تكون.
جسده الممزّق من السياط، والمحترق بأعقاب السجائر، شاهدٌ على أحلامٍ أُجهِضت في ربيعها،
وما زال يهتف:
"يسقط... يسقط النظام."
نبض