هل حقًا يعلمون؟

براءه احمد الجريدي
أتجوّلُ بين الصفحات الإلكترونية والإعلانات باحثةً عن مبتغايَ، فأجدُ الكثير من المعلومات المتضاربة والموجّهة في سياقٍ ما لخدمة أهداف المُموّل. ثمّ، أًتيه أكثر لأعود إلى الطرق التقليديّة لأتفاجأ أنّ الجميعَ أصحاب اختصاص، ولكن قلة قليلة مَن تنتمي إلى عالم الاختصاص الفعليّ، لأكتشفَ أنّ الحقيقةَ عائمةٌ والاتجاه غير محدد.
فهذه المنصة تدفع الكثير لمن تسمّيهم صناع المحتوى من دون اختبار صحة معلوماتهم، فيخدعون وينشرون حتى تُغسَل الأدمغة تلقائياً. وذلك لا يتوقف على نشر الفيديوهات المفبركة في إطارٍ مزيّفٍ حول موضوعٍ طبيّ أو تقنيّ لجذب عدد مشاهدات وبالتالي المال الوفير، فالأرقام توزّع على المظهر، لا على الجوهر. ياللأسف، باتت المعرفة سلعة، ووسيلة لا غاية.
لست أقهرُ أدوات التقدم التكنولوجيّ والذكاء الاصطناعيّ، فأوظّفها وسيلة مساعِدة لا قاعدة مُسلّماً بها، لكنني قلقة على الحقيقة، حتى أنّنا لم نعد نثق كثيراً باستشارة خبيرٍ بشريّ بعد أن شُوّهَت المصادر والتجربة والدراسات. ولا عُدنا نعتمد على مَن هُم يمثلون مهنةً معينةً عن بُعد خلف الشاشات. يصطادوننا من دون رحمة لأجل المال فقط، ومن دون حسيبٍ أو رقيب. فلا ندري عن خلفيّتهم العلمية ولا عن خبرتهم العملية الواقعية، حتى أن التغذية الراجعة أصبحت تُشترى وتُباع. نعم إلى هذا الحدّ، الأخلاقيات والمهنيّة في نزاعٍ شديد في الفضاء الرقمي المزيّن بالتصاميم الجذابة والمؤثرات الحركية المُبهرة.
تخلقُ هذه الحالة بيئة من الارتباك الفكري الذي يؤثر في القرارات الشخصية والمؤسسية حتى تضطرب الاتجاهات، فما عُدنا ندري أتلك وهمٌ أم حقيقة؟ أهذا هو المسار المهنيّ المستقبليّ أم ذاك؟ هل التعليم الأكاديمي أم المهني أم التقني؟ لنرى الناس في تعدد وتشتت في المهمات والرغبات والخطط، يشبهون بعضهم البعض، لكن تخلوا عن أنفسهم في المقابل، آملين الّلحاق بالمركب أينما ذهب حتى لو صعد إلى المريخ، المهم السرعة في التكيّف الجنونيّ.
أشجّعُ الكسب المادي، وتعدد مصادر الدخل، والتعلم المستمر، والإلمام بكل جديد، لكن ليس على حساب التسبّب بالتيه، والضياع للنفس، وفوضوية البحث عن المعلومة، ولا على حساب خذلان الآخرين ولا هزليّة المشهد. نعم، الأدوات الرقميّة تحمينا من أحكام البشر وعيوب المزاج، لكنّها تدخلنا في دوامة أكبر عند المبالغة باستخدامها، لدرجة أنها قد تدخل أدمغتنا المصممة للمرونة في حالة من التعفن والكسل، فإذا توقفت الآلة بعد ذلك بسبب خللٍ تقنيّ أو انقطاع في الكهرباء، كيف نستعين بتلك الأدمغة التي هُجرت طويلًا؟ فلا القلم عاد يخطّ الحروف ولا الأنامل باتت تتحرك بحرّية ولا الألسنة تتحدث لِغايةٍ قيّمة، وماذا بعد؟ القرار بيدك وَحدك فأنت حارسُ عقلك.