نهر الليطاني

فرانسيسكا موسى
نهر الليطاني من شريان حياة إلى مصدر خطر: أزمة بيئية تهدّد صحة اللبنانيين واقتصادهم
يُعدّ نهر الليطاني، الأطول في لبنان، شريانًا مائيًا رئيسيًا يمتدّ لأكثر من 170 كيلومترًا من منبعه في سهل البقاع حتى مصبّه في البحر الأبيض المتوسط جنوب مدينة صور. لعقود، كان هذا النهر ركيزة أساسية في الاقتصاد الوطني، يروي آلاف الدونمات الزراعية، ويولّد الطاقة، ويوفر مياه الشرب. لكنّ تحوّله في السنوات الأخيرة إلى مجرى ملوّث ينذر بأزمة بيئية وصحية واجتماعية خطيرة، يطرح تساؤلات جوهرية حول مصير البيئة في لبنان، ودور الدولة في حمايتها.
منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، بدأت مؤشرات تلوّث النهر بالظهور، لكنّ الأزمة تسارعت بعد نهاية الحرب الأهلية عام 1990، مع انهيار البنى التحتية وتوسّع العمران العشوائي، وتزايد عدد المصانع التي تصبّ نفاياتها في مجراه من دون معالجة. كل ذلك ساهم في تحويل الليطاني من نهرٍ للحياة إلى مصدر للمرض والمخاطر البيئية . تُعدّ مياه الصرف الصحي غير المعالجة المصدر الأبرز للتلوّث، إذ تضخّ أكثر من 70 بلدة وقرية على ضفاف النهر مخلفاتها مباشرة فيه، في ظل غياب شبه تام لمحطات المعالجة الفاعلة. ويؤدي ذلك إلى انتشار البكتيريا والفيروسات والملوثات العضوية في المياه، ما يشكل خطرًا مباشرًا على صحة السكان، لا سيما منهم أولئك الذين يعتمدون على النهر في الري أو الاستهلاك اليومي. من جهة أخرى، تساهم عشرات المصانع في مناطق البقاع والزهراني في تلويث النهر بمواد كيميائية سامة. بعض هذه المعامل، كالدباغات والمسالخ ومصانع الألبان، تتخلّص من نفاياتها الصناعية بشكل غير قانوني في مجرى النهر أو روافده، ما يؤدي إلى تسرّب معادن ثقيلة مثل الرصاص والزئبق والزرنيخ، وهي عناصر ذات آثار صحية وبيئية مدمّرة على المدى الطويل. وتُفاقم الزراعة غير المنظّمة الوضع سوءًا. فنتيجة للاستخدام الكثيف للمبيدات والأسمدة الكيميائية، وتسربها إلى التربة ثم إلى المياه، يتعرّض النظام البيئي المائي لضغوط هائلة. وقد أدّى ذلك إلى نفوق أعداد كبيرة من الأسماك، وانخفاض في التنوع البيولوجي، ما أثّر سلبًا على قطاع الصيد ومصادر الغذاء.
ورغم وجود قوانين بيئية تحظر هذا النوع من التلوّث، فإنّ غياب الرقابة الفعالة، وضعف تطبيق القوانين، وغياب التنسيق بين المؤسسات الرسمية، سمح بتفاقم الكارثة. الجهات المخالِفة غالبًا ما تفلت من العقاب، ما يعمّق الفجوة بين النصوص القانونية والواقع البيئي. صحّيًا، سجّلت المستشفيات القريبة من مجرى النهر ارتفاعًا في حالات الأمراض الجلدية، والالتهابات المعوية، وحتى بعض أنواع السرطان، وفق ما تشير إليه تقارير أطباء وخبراء صحة عامة. أما اقتصاديًا، فقد انعكس تدهور نوعية مياه الري على إنتاج المحاصيل الزراعية، وجودتها، ما خفّض من دخل المزارعين وأثّر على سلاسل الإمداد الغذائية في الأسواق المحلية. ورغم تأسيس "الهيئة الوطنية لحماية نهر الليطاني"، ومحاولات بعض البلديات والمنظمات غير الحكومية لتنظيف النهر أو رفع مستوى التوعية، إلا أنّ غياب الإرادة السياسية، ونقص التمويل، والبيروقراطية الإدارية، لا تزال معوقات كبيرة أمام التقدّم الفعلي.
إن تلوّث نهر الليطاني ليس قضية محلية تخص البقاع أو الجنوب فحسب، بل هو أزمة وطنية تتطلب تحرّكًا عاجلًا على مستوى الدولة. حماية النهر تعني حماية صحة المواطنين، وصون الموارد الطبيعية، وضمان الأمن الغذائي. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من تفعيل القوانين، وتسريع إنشاء محطات المعالجة، وضبط المخالفات الصناعية، وتعزيز الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص. إنقاذ نهر الليطاني لم يعد ترفًا، بل هو أولوية وطنية لا تتحمّل التأجيل.
فهل يحتاج نهر الليطاني إلى إقامة مهرجان انتخابي على ضفافه كي تلتفت إليه الدولة؟