مساهمتي في المصالحة بين الرئيسَين عون والحص

عماد جودية
بعد أيام على وفاة الرئيس الدكتور سليم الحص، أجرت إحدى الصحف المحلية المحترمة حديثا مسهبا مع الرئيس ميشال عون استذكر خلاله الحص "الذي جمعتني به معزة خاصة رغم أننا تواجهنا. فهو غير سياسيي اليوم، رجل أخلاقي شديد النزاهة، ومشكلته أنه وُجد في بلد داشر بلا أمن ولا قضاء".
هذه الكلمات الرقيقة والعظيمة التي نطق بها الرئيس عون تعبّر عما في شخصيته هو أيضا من مناقبية عالية وأخلاق رفيعة وشهامة رجولة القائد الاستثنائي التي تميز مسيرته.
لقد عرفت الرئيس عون منذ تعيينه قائدا للجيش في حكومة الرئيس رشيد كرامي عام 1984 بحكم موقعي آنذاك مستشارا سياسيا للثاني، ثم توطدت علاقتنا عندما تسلم الرئيس الحص دفة الحكومة بعد اغتيال كرامي. وخلال عهد الحكومتين توليت التنسيق بين الرجلين، وعاونني أحيانا من جانب عون الشهيدان الصديقان داني شمعون وجبران تويني. وعند عودة الرئيس عون من منفاه الباريسي وتكريسه في انتخابات حزيران 2005 الزعيم المسيحي الأول على مساحة لبنان، أبلغني الرئيس إميل لحود أن عون أرسل له عبر الراحل الدكتور طوني حرب (ناشط عوني) أنه راغب في تصفير كل عداواته وخصوماته السياسية، ويودّ المصالحة مع الرئيس الحص. وتمنى عليّ الرئيس لحود أن أضطلع بدور محوري وأساسي في دفع المصالحة بين الرئيسين القدوتين، معتبرا أن لا أحد غيري قادر على القيام بهذه المهمة لكوني الأكثر قربا من الرئيس الحص، إضافة إلى محبتي وتقديري واحترامي للرئيس عون في آن معا.
ونزولا عند رغبة الرئيس لحود، بدأت فورا اتصالات بين الرجلين بعيدا من الإعلام، لم تستغرق أكثر من أسابيع قليلة انتهت بزيارتنا، أنا والحص، لعون في دارته بالرابية، ومعنا مصوّري الخاص مصطفى جابر، لالتقاط الصورة التاريخية للقاء المصالحة بين كبيرين لم يعرف لبنان مثيلا لهما، تخاصما بشرف وتصالحا بشرف.
فالحص من طراز رجال الدولة النبلاء الذين لا يتكررون، خلقا وأدبا ونزاهة وكفاءة ورجولة. وعون قائد تاريخي متميز شكّل حالة شعبية وسياسية بين اللبنانيين وجعل الشارع يتبعه، من كل الطوائف والمذاهب، مأخوذا بهالته القيادية الفريدة التي لم يعرف لبنان مثيلا لها منذ الاستقلال، حتى صار هذا الشارع أسيرا له، لا العكس.
لا أسمح لنفسي بأن أبوح بما دار بين الرجلين خلال لقاء المصالحة الذي اقتصر فيه الحضور علينا نحن الثلاثة فقط، إذ بقي الدكتور حرب خارجا، لأن ما جرى بينهما ملك لهما، وربما أكشف عنه لاحقا في كتاب مذكراتي وأسرده كاملا إذا قررت كتابته. ولكن ما يمكنني البوح به هو ما قاله لي الرئيس الحص عندما فاتحته في فكرة مصالحته مع عون بتمنّ من الرئيس لحود: "أنت تعرف عماد أنني عارضت من الأساس يوم كنت رئيسا للحكومة خلال عهد الرئيس الهراوي فكرة القيام بأي عمل عسكري ضد عون أثناء وجوده في قصر بعبدا، ومعارضتي لهذا الأمر كانت نابعة من كونه يمثل حالة شعبية وسياسية لا يستهان بها داخل البلد. وتحت إمرته ضباط ورتباء وجنود في الأسلاك العسكرية والأمنية لا يجوز التعامل معه ومعهم على أنهم خارجون عن القانون ويجب اعادتهم بقوة السلاح إلى بيت الطاعة الشرعي. هذا الأمر سيرتب سفك دماء بين شطري قوى الشرعية، وهذا ما حصل يا للأسف، وليتهم سمعوا مني آنذاك وذهبنا لإنهاء المسألة بالطرق السياسية البعيدة عن العنف، لكنّا وفّرنا على البلد تلك المأساة التي ستبقى نقطة سوداء في تاريخ لبنان الحديث. وها هو اليوم يعود من منفاه الباريسي إلى لبنان من الباب العريض ويكرس نفسه زعيما مسيحيا كبيرا عن جدارة".
عندما نقلت إلى الرئيس عون ما قاله الرئيس الحص عنه في هذا الصدد، دمعت عيناه، وقال: "قدّرت كثيرا آنذاك موقفه الوطني الكبير يوم عارض العمل العسكري ضدي وضد ضباطي وجنودي، فهو رجل دولة استثنائي، تعامل معي باحترام أثناء وجودي في قيادة الجيش، وخاصمني بشرف ونبل طوال وجودي في قصر بعبدا، وأمثاله كرجل دولة كبير لا يتكررون في لبنان".
في هذه المناسبة لا يسعني إلا أن أشكر الأديب والكاتب السياسي المحترم الصديق الدكتور حسن موسى لأنه كشف في كتاب مذكرات الرئيس الحص "بلا هوادة" الذي كان قد أعده له قبل سنوات، تفاصيل رعايتي لقاء المصالحة التاريخية بينه وبين الرئيس عون، ونشر صورة عن هذه المصالحة تجمعنا نحن الثلاثة في منزل عون في الرابية يومذاك. والشكر كل الشكر للرئيس عون أطال الله بعمره على رقيّ كلماته وطيب رأيه في الرئيس الحص الذي كان صوتا صارخا في البرية كما صوت يوحنا المعمداني. فـ"لبنان قُتل" عندما عزلوه سياسيا عام 2000 بالتآمر عليه في الانتخابات النيابية، والرجل في مسيرته العامة "ظُلم" من الطبقة السياسية الفاسدة وراعيها النظام السوري، كما ظُلم مثله الرؤساء الراحلون الأعزاء حسين الحسيني ورشيد وعمر كرامي على طريقة ظلم الحسين من أهل بيته.
نأمل ألا تتمكن هذه الطبقة المافيوية الجامحة الشرسة من افشال عهد الرئيس جوزف عون كما أفشلت عهد الرئيس ميشال عون ومن قبله عهد الرئيس إميل لحود.