إنه ليس هَهنا بل قام!

فادي بو راشد
من منّا لا يعرف قصة زيارة النسوة لقبر يسوع؟ حجرٌ مدحرج؛ اختفاء جسد يسوع؛ حيرةٌ شديدة؛ وخوفٌ كبير أمام رجُلَين عليهما ثيابٌ برّاقة يقولان: "لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات؟ ما هو هنا، بل قام". لم يشهد تاريخ البشرية أمراً مماثلاً لما حدث في ذاك الصباح، إذ كيف لمن دخل عالم الأموات أن يخرج منه ويفلت من شدقه السحيق؟ فالموت بحسب العهد القديم "يفتح فغره ولا يشبع. ويقفل علينا أبواب قبورنا لئلّا يخرج منها أحد. فمن ينجو من هوّة الموت؟ إنّه دار ميعاد كلّ حيّ، وإليه جميعنا نُقاد". فلا عجب إذن أن تسود النسوةَ حيرةٌ ورعب شديدان. ولا أن يظنّ الرُسل أنهنّ واهمات. ولا أن يسخَر كِلْسوس الوثنيّ من القيامة في قوله: "أول من رأى يسوع بعد قيامته، كنّ نسوة ساذجات خدعن أنفسهنّ والآخرين بسبب خيالهنّ المُفرط والسخيف". في كل الأحوال، وبعد حدث الصَلب العنيف، فُتحت ثغرة باتجاه أفق غير متوقع. فما إن بدأت ترائيات يسوع للرسل والتلاميذ، حتى أخذت حقيقة القيامة تتبلور شيئاً فشيئاً.
"فالربّ مات وقام" وفق ما جاء في أقدم وثيقة من العهد الجديد (تسالونيكي الأولى حوالي سنة 50 م). وإيمان الكنيسة الأولى أجمع على حدث القيامة وإن تباينت سرديات الرواة حولها. ولعلّ هذا التبايُن هو خير دليل على عدم تلفيقها. لقد تراءى يسوع لتلاميذه وكلّمهم وأكل معهم. ودعاهم ليلمسوه. وفتح عقولهم ليفهموا الكتب المقدّسة. فكانت تلك الترائيات بمثابة سلسلة مبادرات أرادها القائم من الموت ليُثبت لهم حُضوره. إنها القيامة! أو “Big Bang” العالم الجديد في لحظاته الأولى. فلا شكوك التلاميذ وحيرتهم، ولا فضّة رؤساء الكهنة، ولا الاضطهادات والبدع لاحقاً، كانت كافية لتردّ هذا الانفجار إلى ما قبل حدوثه. وبولس الرسول كان من أوائل الّذين استخلصوا حقيقة الأمر بقوله: "وإن كان المسيح ما قام، فتبشيرنا باطلٌ وإيمانكم باطل أيضاً، ونكون شهود زور على الله أنّه أقامه وهو ما أقامه... وإن كان رجاؤنا في المسيح لا يتعدّى هذه الحياة، فنحن أشقى الناس جميعاً". والرسل أنفسهم راحوا يؤدّون الشهادة بقيامة الربّ بقوة عظيمة، أي قوة الله الجبّارة التي أظهرها لنا في المسيح حين أقامه من الموت، وأجلسه إلى يمينه في السّماوات، كما تخبرنا الرسالة إلى أهل أفسس.
غير أن تاريخ المسيحيّة لم يخلُ من اعتراضات جمّة على قيامة المسيح. فمنذ فجر انطلاقها، شهدت الكنيسة بدعاً رافضة لحقيقة التجسدّ والقيامة. ولقد حذّرنا يوحنا الرسول في رسالتيه الأولى والثانية من الّذين لا يعترفون بأن المسيح قد جاء في الجسد، مشيراً في ذلك إلى تعاليم المظهريّة (Docétisme) وهي البدعة القائلة بأنه لم يكن للمسيح جسد حقيقي، بل مجرد مظهر خادع، إذ لا يمكن لما هو إلهي أن يختلط بما هو مادي، وعليه، زعمت أن آلام يسوع وموته على الصليب، كانت وهميّة ومظهريّة، فأنكرت بذلك حقيقة التجسّد والموت صلباً، وبالتالي القيامة بالجسد. حارب آباء الكنيسة مقولات هذه البدعة بشدّة لتتلاشى لاحقاً مع المجامع الأولى التي حدّدت هويّة يسوع وأكدت موته وقيامته. ولطالما كانت الكنيسة تعتبر أن الفصح هو عيد الأعياد، وأن إلغاء قيامة المسيح بالجسد، سيُسقط المسيحية برمّتها؛ فالذي وُلد من نسل داود بحسب الطبيعة البشريّة، جُعل ابن الله في القدرة... بقيامته من بين الأموات (روما 1: 4). فهذه قاعدة لا يمكن تجاوزها لئلّا تصير محبة الله بدورها وهماً. مع حلول القرنين الثامن والتاسع عشر، عادت لتظهر تفسيرات ومقاربات تقليصيّة لقضيّة القيامة.
فريدريك شلايرماخر (1768-1834)، ومدرسته من بعده، اختزل القيامة باعتبارها تجربة روحية يعيشها المؤمنون بغض النظر عما إن كان يسوع قام بالجسد أو لا. فالتفسير الروحي هو الجوهري وليس حدث القيامة المادي بحد ذاته. ولقد مهّد هذا المنحى اللاهوتي لبروز تيارات لاهوتيّة أكثر تطرفاً. رودولف بولتمن (1884-1976)، أطلق في لاهوته ما سمّاه (La Démythologisation) للنصوص المقدّسة، أي "نزع المنحى الميثولوجي" عنها، لأن عالم القرن العشرين بعلومه وتقدّمه التقني، لا يمكنه بالنسبة إليه أن يتماشى مع العناصر الميثولوجية الموجودة في النصوص البيبليّة. فالعجائب والآيات والأحداث فوق الطبيعية، يجب قراءتها وشرحها باعتبارها لغة ميثولوجية - رمزيّة بحتة. ولذا، إن الكلام على قيامة يسوع بجسده من الموت، هو مجرد أسطورة لا يمكن القبول بها. فيسوع قائم ببشارة الكنيسة فقط. والرسل هم الّذين أقاموه من الموت بكرازتهم. فحدثُ القيامة قد تمّ في البشارة حصراً، بينما يسوع بقي فعليّاً في قبره. من هنا، وبدل أن تكون القيامة هي أساس إيمان الرُسل بالمسيح، أضحت كرازتهم به بمثابة قيامة روحيّة تتجلّى في حياة الجماعة لا أكثر. لقد انقلبت الأمور مع بولتمن واختلطت رأسا على عقب. وبات من المستحيل تأسيس إيماننا على المسيح الحيّ، وهنا لبّ الخطأ ومشكلة البولتمَنيّة برمّتها. فالحقيقة أننا لسنا نحن مَن أقمنا المسيح من موته بوساطة البشارة، بل هو الّذي بقيامته سيقيمنا من بين الأموات، ويجعل البشارة به ممكنة، وإلّا لفقدنا يسوع الكنيسة الحقيقيّ. فلا ريب إذن في أن بولتمن قد اختزل حقيقة المسيح إلى حدّ يجعل قارئه يقول: "أخذوا ربّي ولا أعرف أين وضعوه". لاهوت القرنين الماضي والحاضر، أعاد تصويب الأمور إلى حدّ كبير مع مفكّرين مِن أمثال: (H. Thielicke, F-X Durrwell, G. Vigli, J. Ratzinger, G. Hennig) وغيرهم من الأسماء الكبرى في عالم اللاهوت. واستعاد التفكّر في القيامة الكثير من توازنه وانسجامه مع تعليم الكنيسة وعقيدتها.
وصار بمقدورنا أن نعوّل على فهم أكثر عمقاً لسرّ القيامة ومفاعيلها. أمّا اليوم، وإذ يُعيّد بعضنا بعضاً قائلين: "المسيح قام، حقّاً قام"، لا بُدّ لنا من فهم القيامة كما فهمتها الكنيسة وبنت عليها كيانها ورسالتها. فالمسيح حيٌّ وحاضر لأنه غلب الموت وحطّم قيوده. وقدّم للبشرية وجهة كمالها النهائي. فأيّ مصير للناس بغير قيامة؟ ويخطر في فكري ما قاله اللاهوتي البريطاني المعاصر نيكولا رايت: " تُثبت القيامة أن التاريخ لم يكتمل بعد. وأن الله مستمر في إعادة خلق كل شيء. وهذا مؤشر على أن للعالم والبشريّة بداية جديدة على الدوام". إن الإيمان بالربّ الحيّ وقبول مفاعيل قيامته فينا، سيجعل إيماننا إيماناً قياميّاً وبداية تهب الخلاص. فالقيامة ليست برهاناً دفاعيّاً عن ألوهيّة الابن وحسب، بل هي موضوع الإيمان بحدّ ذاته. فـ"لو لم يقم المسيح لكان إيماننا باطلاً، ولكنّا بعد في خطايانا" كما يعلّمنا بولس الرسول.
"فنحن نحيا في المسيح. ونموت في المسيح. ولنا فيه الفداء وحسن السيرة والمحبة، وخلع الإنسان القديم بما فيه من خبث وخطيئة. فلنلبس إنساننا الجديد إذن، إنسان القيامة المُتجدّد على صورة الله بالمعرفة والقداسة. ونسعى إلى الأمور التي في العلى حيث المسيح جالس بجسده الممجد عن يمين الله". ولا مغالاة في القول، إن إيماناً ما دون هذا الإيمان، ليس بإيمان...
فصح مجيد! المسيح قام، حقّاً قام!
* أستاذ في كلية اللاهوت والعلوم البيبليّة - الجامعة الأنطونيّة